أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
جدلية التعايش قراءة في رواية “فئران أمي حصة” لسعود السنعوسي!!
بقلم : أيمن حمد المناصير ... 28.04.2019

ليس من السهل أن تكون اختياراتك على المقاس من أول كلمة تخط بها عملك إلى آخر قفلة توصد بها باب نصك، هذا ما أستطيع أن أسطره مع آخر سطر من سطور رواية “فئران أمي حصة” للمبدع سعود السنعوسي، الذي أصرّ من خلال هذه الرواية على أن يكون نذير قومه، وصاحب العيون التي ترى مستقبلا سوداويا، تحت دوي الانغلاق والتحجّر وتحييد قيم النظر والتعقّل، يتشكّل.
لذاك استلّ من جعبته مفردة النص الآسرة ” الفئران قادمة، أنقذوا الناس من الطاعون”، لافتة تمّ استدعاؤها من فوضى الكلمات المحذّرة المهملة، التي طالما دقّت على الجدران متسائلة ومحذّرة، لكن دون أن يُسمع كلام صاحبها، الذي لا بد أن يكون مختلا في عالم يغص بالمجانيين.
المجانيين الذين وجدوا أنفسهم يعيشون مشاكل غيرهم، وينتمون إلى جدليّات ومشاكل لا تنتمي إليهم، وهموم وقضايا لا تشبههم، ويتمترسون خلف شخصيّات عاشت حياتها فأخطأت وأصابت وتحمّلت نتائج ما اقترفت يداها؛ بناء على صيرورة حركة المجتمع وأفكاره، لكن الإنذار الذي يصرخ كدوي، يأتي على لسان أبناء فؤادة: ما لنا ولهم، دعونا نحيا حياتنا.
النّص مفتوح على أسئلة بالجملة تناقش حالة قد تبدو محليّة، لكن إن أجلنا النظر قليلا في محيطنا العربي والإسلامي، نجد أننا محتاجون لأبناء فؤادة كي ننقذ الناس وبلادنا من الطاعون، الطاعون الذي ينكر التنوع والاختلاف والتعايش، ويعلي من صوت العصبيّة والانغلاق وعدم قبول الآخر، وحتى نتبين رسالة الكاتب دعونا نغوص معه في رحلة الاختيارات المحكمة التي اتكأ عليها ليبني نصه.
فالعنوان الذي يشكل اللافتة التي تغرينا بالولوج إلى النص؛ كي نكتشف عوالمه ونتعرف أسراره، يتبدى معلنا عن نفسه كأول اختيارات الكاتب التي تقول لنا منذ اللحظة الأولى أنّ النص يسير باتجاه لا يخطئوه، فهذه الفئران التي لا تظهر إلا من خلال آثارها، تاركة خلفها رائحتها النتنة، تظهر في النص على شكل قوة دافعة متكفلة بحمل هموم الكاتب، متّصلة برسالة النص الرئيسة ” الفئران قادمة”، ولقد اختار الكاتب لفئرانه أسماء تشي بكارثة مكتملة الأركان تبدأ “بشرر” ثم يشعلها “بجمر” لتستحيل “لظى” يأكل الأخضر واليابس، ثم ما تلبث أن تكون “رمادا” في متتالية منطقية توشك على الحدوث في مجتمع لم يعبأ بفئرانه، وتركها تكبر حتى غدت جامحة عصيّة على القيد والسيطرة.

الزمان حاضر بقسوة في هذا العمل الذي يتكئ على الذاكرة أساسًا، ويمتد نحو مستقبل مفترض في نوع من الكتابات الاستشرافية التي لا تعتمد على الأبراج وقراءة الكف والطالع، وإنما على القراءة الدقيقة للواقع ومفرداته، وتشخيص شامل للأمراض المتفشية، يفضي إلى توقعات مؤلمة وتدخلات جراحية، قد تنقذ الوضع الحرج، للحالة التي صنعناها بتخلفنا.
خط الزمن لم يكن يسير باتجاه واحد” فالزمن خليط في رأسي”، إذ ينطلق من اللحظة الراهنة باتجاه الماضي، ليس حبا في تتبع آثاره وإنما من أجل تبين واقع الحالة وتفاصيل المشكلة التي تعقدت خيوطها فيه، فيغدو الزمن بهذا المعنى، الوعاء الذي خلق المشكلة أو شارك في خلقها، إذ يؤرخ لأول مشاجرة يشترك بها طفل في سِنِي تفتحه الأولى، والغريب في الأمر أن هذا العراك ينتمي إلى خلاف متجذّر حدث قبل ما يزيد على الألف سنة، في مشهد يعيد إنتاج التخلف ويكرسه، مشهد يرهّن الماضي ويجعله زمنا راهنا حاضرا، نعيشه بكل ندوبه وآلامه، لا بل لا نحيا إلا بها ، لأنها على حد زعمنا هي التي تحدّد ملامحنا وشكلنا وهويتنا “روافض” “نواصب” ” فارسي” ….
وهذا الزمن الذي يلقي بظلاله على تفاصيل الحارات الضيّقة، يمتدّ إلى عقول الدول لينتج أزمات متتالية تريد أن تؤكد عروبة هذا الخليج أو فارسيته، في مفارقة تنكأ جراح الماضي وتغذيها، فالحرب العراقية الإيرانية حاضرة بكل تفاصيلها في مشهد لا يخلو من غرابة يفضي إلى اختلافات عميقة على رقعة الوطن الواحد.
ولأنّ الزمن أيضا لم يكن كفيلا بأن يدمل جراحا غائرة، أطلّ برأسه هذه المرة متوحدا مع المكان ليصف مجتمعات تغيّرت جذريا بين مرحلتين، مرحلة الـ “ما قبل” والـ “ما بعد”، ماقبل حرب الخليج الثانية وما بعدها، حيث كان التنوّع والاختلاف المثري سمة الزمان والمكان، ليصير بلمحة عين، زمن ينكر الآخر ويجرمه، إلى الحد الذي لا يتحمل فيه كلمة “برّرررد” التي كانت تطفئ لهيب جوف أرهقه الحر، لتصير وجعا يتحمله بسطاء كتب عليهم أن يتحملوا نتائج أخطاء قياداتهم.
المكان مستودع الذكريات يغدو في حالة التشظي صورة عن فرع فهمنا، صورة تحتفي بانقسامنا وتكرسه، من الشوارع التي غيرت جلدها ولبست أسماء جديدة، إلى الأماكن التي تنغلق على نفسها كسلحفاة تلبس بيتا أثقل من جسمها، ليغدو المكان بهذا المعنى محدود الأفق، لا يرى أبعد من طرف فكرته، ليتحول حاضن الانقسام والتفتت ومجذره.
” من أين للأماكن القديمة أن تحيي ذكرياتها المخبوءة في ثناياها بمجرد المرور بها، فقد “استفاقت الذكريات للتو من غيبوبتها” الذكريات التي تؤرخ للمكان وللزمان، للمشكلة وجذورها، للتخلف الذي رسم نفسه على الجدران، وعلى الخزانات العامة ليعزّز التقسيم الفكري، بلافتات تتقيأ على الجدران ” اللعنة على النواصب” ” الموت للروافض” ……. عبارات تخدش السلم الأهلي وتهشمه، والمشكلة أنها تتشجأ التاريخ وتعيد إنتاجه بصورة مختزلة معيبة.
ولعله من اللافت دقة اختيار أسماء الشوارع والأماكن والأحياء” فالسرة” التي لا بد أن تجمع ولا تفرق تغدو ساحة احتراب دائمة و” الجسر” يتخلى عن وظيفته الدائمة، كهمزة وصل تصل وتتواصل وتمدّ شراينها في الأرجاء، ليتحوّل بين ليلة وضحاها إلى همزة فصل وقطيعة، علاوة على الشوارع التي غيّرت أسماءها بما يتلاءم مع لون الطائفة وغطاء رأسها.
الكاتب يحاول تفسير الجنون الذي حل فجأة وعمّ الأرجاء، يحاول تفسير تلك الهرولة التي تمارسها “الديرة” في رحلة البحث عن نقاء الدم والانغلاق وسد النوافذ بفعل الصدمة، إلى الحد الذي فرغت فيه السرة من تنوعها، ذلك التنوع الضامن لسلامة المجتمع، التنوع الذي يربي الناس على تقبّل الآخر في رحلة أخذ وعطاء تضمن التطوير الدائم لمفردات العقل والإجابة عن أسئلته.
يحاول تفكيك المشهد ليعيد رسمه من جديد، ليجعل القارئ على تماس مباشر بالتغيرات العميقة التي أصابت المجتمع، وهذه التفسيرات أسبغت على النص واقعية معقلنة، تجعل القارئ جزءا من الحدث ومساهما فيه، ومنحازا إلى منطقه.
حتى أسماء الشخصيات قد تغدو ألغاما قابلة للانفجار، أو قد تختصر المشهد برمته، فـ”عمر” ليس اسما مكونا من ثلاثة حروف لكنه اسم يحمل إرثا ثقيلا من التعصب والانحياز لجانبي المعسكر اللذين يجتهدان في تعميق بؤر الاختلاف، ليتحول الاسم بهذا المعنى لافتة تختصر فئة، وتستفز أخرى، فئة تبجله وأخرى تلبسه أثوابا من اللعنات، تزيد المشهد تفككا، مع أن عمر المقصود قد قتل قبل ظهور المذهب وتشكّله، في مفارقة لا تخلو من سخرية على واقع نسجناه بجهلنا.
ولقد بنى الكاتب شخصياته من واقع الحياة، لكنه اختار في توليفته عائلات وجيرانا يمثلون المشهد بكل تجلياته، فجمع عناصر الخلاف ووضغ لكل جناح من يؤيده، ولم يكتف من خلال شخصياته بجلد الذات وبيان نقاط العوار في المجتمع، لكنه وضع أيضا بذور الحل من خلال “أبناء فؤاده” ذلك الخليط المتنور الذي ينتمي إلى الجميع، لكنه لا ينتمي إلى جهلهم وتعصبهم، ليحمّلهم رسالة النص القائمة على ثنائية التحذير والتصدي، ” الفئران قادمة، احموا الناس من الطاعون”.
لم يجعل شخصياته تدور في فلك واحد بل جعلها متعددة الأصوات والرؤى والمشارب والانتماءات، حتى أبناء فؤادة لم يكونوا صورة مكربنة، تنتج نسخا متشابهة، بل على العكس تماما، نجد أن بينهم اختلافات جذرية في الرؤى والتوجهات، وفي الوقت نفسه لم تمنع هذه الاختلافات من الاتفاق على جوامع مشتركة، تحفظ كيانهم الوليد، وتؤسس لمنطق المناطق الرمادية التي تتسع للجميع، المناطق التي تؤمن أن تنوع البشر واختلافهم أساس البناء الحقيقي.
لا يمكن أن تتخيّل رواية تطرح موضوعا بهذه الحساسية وتضعه على بساط البحث، دون أن نرى صراعا متعدد المستويات، ولذلك اهتم الكاتب بإثارة الأسئلة المربكة، التي شكلت الهويات الفرعية، محاولا تفكيكها وسبر أغوارها؛ “يمه أنا شيعي وإلا سني” لأنه مهتم بنبش الملفات لإعادة دفنها بما يتلاءم مع التعايش والسلم الأهلي بعيدا عن الاستقطاب والتعصب، ولقد طرح نموذجا جامعا أظهر من خلالة زواج فهد(الشيعي) من حوراء (السنية)، إذ دار خلاف على كل شيء حتى الأجهزة الكربائية، ولم يكن الخلاف كما يبدو ظاهريا على الماركات وجودتها، وإنما على مذهب من يملكون هذه الماركات وعمائمهم، ولذلك أصر كل اتجاه أن يؤكد “دهننا في مكبتنا”، في تكريس حقيقي لصور التشرذم والتفكك الذي يغذى بكل الطرق والأشكال.
لقد اختار الكاتب لغته بعناية، كأنه يكتب من خلالها وصفة طبيب لمريض أنهكه التعب، لذلك لم يكن مجاملا في اختياراته ابتداء بمفردات العنوان المثير مرورا بمفاصل العمل، فقد كان معنيا أن تصل رسالته واضحة لا لبس فيها، لذلك اختار مجموعة من الكلمات والعبارات المفتاحية التي التي تكشف للقارئ أنه لا يخاف من دفعها إلى طاولة البحث والنقاش ” سني” شيعي” “فارسي ” عراقي، كل هذه المفردات لا تشكل له هاجسا مخيفا، إن هو طرحها على المائدة ليعيد تنظيمها بما يتلاءم مع التعايش والسلم الأهلي، فهذه المفاتيح هي أصل المشكلة من جهة، وتحمل بذور تفكيكها وتعطيل مفعولها من جهة أخرى، ولعل صراحة الكاتب في طرحها بهذا الشكل السافر يوحي بأهمية التحلي بالشجاعة عندما نتناول المفردات أو القضايا التي تؤثر على حياتنا ومستقبلنا.
وعلى الرغم من استخدامه الكلمات المباشرة التي تحمل المعاني الحرفية المعجمية لمدلولاتها، إلا أنه اتكاء على المفردات المثقلة برموزها، ولعلك ترى “بالفئران”، وأسمائها ” شرر وجمر ولظى ورماد” ما يحيلك إلى مدى خطر إهمال هذه الفئران التي ستعصف بنا عاجلا أم آجلا ” “بالطاعون” الذين إن تفشى، فلن يبقي ولن يذر، ولعل هذه الاختيارات المشفرة تحسب للكاتب وتصبّ برصيده، لأن الاتكاء على الرمز، يعطي النص صفة الخلود والاستمرار، والقدرة على التماهي مع قضايا مشابهة، فلكل مجتمع فئرانه، ولكل مجتمع أمراضه التي لا بد أن يتربّع ” الطأعون على عرشها.
ولقد أسهمت الصور الفنية في تأجيج النص، وألهبت مشاعرنا عندما “اقبلت المصائب تمسك إحداها بيد الاخرى حتى غدا الوطن” منفضة سجائر ضخمة” كجلاد وضحية في آن، نتيجة الإهمال والسكوت، عندما ارتضى” الناس أن يكونوا كجياد العربات كأبقار السواقي” يسيرون بعيون مغمضة وحركات دائرية لا تهدأ، خدمة لمن أغمض عيونهم، ولم يتجرأ أحد أن يقول “المِلَّة ليست بيت أبيك تطردني منها وقتما تشاء”، ولم يعلم أحد أنّ الهدم “لا يخلف إلا حجارة لا تصلح للبناء “، ولعل الكاتب غدا مصرا أن يحشد الصور التي تستفز المخيلة، وتجسّم الكارثة، وتجسد الحقيقة، حتى يتعظ الناس ويحذروا “الطاعون”، كي لا يسقطوا في ” إرث النار”.
لعل فكرة النصح المشوبة بالتحذير تطل برأسها من كل زوايا النص، وما هذا إلا لأن الكاتب مثقل برسالته، داعيا إلى إبطال مفعول الانفجار الوشيك، الذي وضع موعد تحقّقه على مرمى حجر، في نبوءة لا نتمناها، وإني لأخاف عيونَ المفكرين لأنها لا تخطئ أبدًا، فقد حذّر جورج أورويل في” الأخ الكبير، 1984″ و تنبأ في “مزرعته”، وتحققت إلى حد كبير توقعاته، أما ناصح قومه، فقد أبرى لسانه بين العمائم واللحى، لكنهم لم يستبينوا الرشد إلا في ضحى الغد.

1