أحدث الأخبار
الجمعة 26 نيسان/أبريل 2024
رواية واقعية عن طفل يقاتل في صراع الكبار!!
بقلم : عبدالله مكسور  ... 29.10.2016

الأطفال وقود الحرب، هم ضحاياها المنسيون من التدوين دوما، إلا أن هناك البعض من الكتاب ممن كشفوا عن قصص واقعية، وربما ذاتية، باختلاف الأساليب، فنرى المواجهات العسكرية في أراض بعيدة، وما ينجر عنها من قتل ودمار وتشرّد، فتتحول الرواية إلى رحلة حياة خاصة تطوف بالقارئ في مستويات متعددة بهدف إظهار بشاعة الحرب وأثرها على البنية الاجتماعية في أي بلاد.
يختصر الكاتب السيراليوني إشمائيل بيه في عتبة روايته الشهيرة “الطريق الطويل، مذكرات صبي مجند”، المقولات المتعددة في الحرب، فالإهداء الذي جاء متدرجا في صدر الرواية، يبدأ بالعائلة التي انفصل عنها الكاتب فجأة، مروراً بأطفال بلاده الذين كانوا وقودا لمواجهات عسكرية لم يختاروا وقوعها أو الدخول في جولاتها، وانتهاء بأصحاب الفضل الذين كانوا سببا في تحوُّله إلى “رجل متحضر”.
سيرة حياة الكاتب جاءت على شكل رواية كتبها في عامه السابع والعشرين، متخلصا من ضغوط الجغرافيا والتاريخ معا، بعد سنوات من انتقاله إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث يقيم اليوم، فإشمائيل بيه ولد عام 1980 في سيراليون، وعاش فيها 18 عاما تدرَّجت أحلامه خلالها في مستويات عديدة، حتى وصل إلى نيويورك عام 1998 حيث أكمل دراسته الثانوية لعامَين، والتحق بعد ذلك بقسم العلوم السياسية في كلية أوبرلين، لتكون المحطة الأخيرة جسرا له لعضوية اللجنة الاستشارية لحقوق الإنسان في المنظمة الدولية.
رحلة ذاتية
تبدو الكتابة عن الذات بهذه الشفافية العالية، والمواجهة الصادمة بين عوالم متنوعة يربطها فضاء الحرب التي عاش تفاصيلها الكاتب، مهمة قاتلة لصاحبها، لكن مستوى الإحساس العالي والدقة التي أرادها إشمائيل بيه لتكون وثيقته التاريخية التي لا تقبل أنصاف العبارات، جعلا النص أفقيا ممتدا دون احتمال التأويلات البلاغية، أو الإسقاطات المعرفية.
نرى الكاتب يتمرد على التاريخ والجغرافيا، فخارطة هروبه تتصدر الصفحات الأولى للرواية، وانشغالاته الطفولية حين كانت حشود النازحين تعبر بقريته على هامش التاريخ، لم تجعله يلتفت إلى الحدث الحتمي الذي سيكون مآله بعد ذلك.
سيراليون التي تقع على ساحل المحيط الأطلسي، غربي القارة الأفريقية بين غينيا شمالا وليبيريا من الجنوب الشرقي، استمدت اسمها من مزاوجة الجغرافيا والأساطير معا، فالاسم الذي يتكون من قسمين “سيرا” التي تعني القمة أو الذروة، و”ليون” التي تُطلق على الأسد، جعلها تحمل لقب “قمة الأسد”، والأسد رغم غيابه في الرواية بمنطقه الحيواني، إلا أنه يظهر في الشق الوحشي الذي يحمله الإنسان.
ينطلق إشمائيل بيه، في روايته الصادرة عن دار الشروق، من الذات الخاصة إلى الذات الجمعية، فتظهر الأجواء العامة للبلاد خلال الحرب الأهلية كموسيقى تصويرية، أسبابها التي يمكن استنتاجها لا يتناولها الكاتب إطلاقا، فالقمع والإكراه ضد شعب سيراليون في ظل ضعف الحكومة على محاكمة المتورطين بالسرقة ومصادرة البلاد، فضلا عن التدخلات الخارجية من المحيط، كل هذا أسس لخلق أمراء حرب على كل الضفاف في بلاد تتألف من أكثر من ثلاث عشرة قبيلة.
هكذا وجد الكاتب نفسه فريسة الأحداث وهو يخطو في سنه الثانية عشرة هربا من هجوم المتمردين على قريته التي مرَّ بها النازحون قبل ذلك بأيام، يبتعد هنا الكاتب بنصه العربي الذي صدر عن دار الشروق المصرية وبترجمة الكاتبة سحر توفيق عن التنميقات الأدبية والتصاوير البلاغية، فيقترب أكثر من الحس الإنساني دون تكاليف اللغة، منطلقا من قاعدة ذهبية في الكتابة؛ أنَّ البساطة تصنع الجمال، فكيف إذا كانت البساطة معجونة بالدم والألم والقهر بين المدن التي عبر بها خلال رحلته في الفيافي قبل وقوعه صيدا ثمينا في يد قوات الجيش التي أعادت تأهيله، لتصنع منه مقاتلا وقاتلا.
الفلَتان الأمني وغياب الناظم الأخلاقي خلال تلك السنوات كانا سببا رئيسا في تحوُّل الطفل إلى قاتل، هنا يضعنا الكاتب إشمائيل بيه أمام مواجهة صادمة بأن الإنسان ابن بيئته، يُشبِهُها ويحمل فكرها.
لقاء في المدينة
المواجهة الصادمة التي حملها الطفل معه خلال سنواته القليلة تلك، كانت شعوره بالاختلاف عن أبناء جيله، اختلاف جذري لا يشبه اختلاف الثقافات، إنه نابع من أسلوب الحياة، إحساسه أنه فقد كلَّ شيء فراح يستذكر عائلته في مشاهد لا يؤكد هو حقيقة حدوثها، ربما أرادها هكذا كي يُقنِع نفسه أنه ينتمي إلى عائلة قبل أن يظهر عمَّه قريبا في إحدى المدن ويحاول انتشاله من الظرف الذي كان يعيش فيه، هنا تبرز ثنائية أخرى يناقشها الكاتب، فكيف سيستطيع ذلك الطفل التأقلم مع الحياة الجديدة، وهو الذي عاش سنوات على مسؤولية نفسه، يخاطر بها ويفعل ما يشاء تحت اسم المغامرة، يعيش اليوم دون أمل بانقضائه، لكن هذه المناورات الفكرية لا تلبثُ أن تسقط كلها بمجرد انخراطه في العالم الجديد، يتميّز عن الآخرين باختلافه، هذا بالضبط ما كان سلاحه أمام الجميع بعد أن ألقى السلاح الحديدي الذي حمله خلال المواجهات العسكرية.
يبرز هنا مشهد لقائه في العاصمة مع رجل “أنيق” كان يختار أطفالا من سيراليون للذهاب إلى الأمم المتحدة لعرض قضية الطفولة في البلاد التي تمزقها الحرب.
جلس إشمائيل بثياب قديمة وسط أطفال يرتدون ربطات عنق، فباغته سؤال الموظف “لماذا تظنُّ أنك كفء للذهاب إلى الأمم المتحدة لعرض الظروف التي تؤثر على الأطفال في هذا البلد؟”، ليرد الطفل أيضا بكلمات مباشرة “أنا من ذلك الجزء من البلاد، حيث لم أعان فقط من الحرب، لكني أيضا شاركت فيها، ومررت بمرحلة تأهيل، وفهمي للواقع أفضل لأنه قائم على تجربتي وخبرتي بالأوضاع، أكثر من أي من هؤلاء الأولاد المدنيين، إنهم لايعرفون شيئا عن الحرب إلا أخبارها”.
مرافعة واضحة المعالم قدّمها الطفل الذي جلس خلف لافتة تحمل اسم بلاده في مبنى الأمم المتحدة بأميركا، لكنها أيام قليلة حتى عاد إلى فريتاون في سيراليون، هناك عاش صراعات جديدة تمثَّلَت بين “هنا” التي تعني بيت عمه الصغير، و”هناك” التي تعني الولايات المتحدة، هذه المشاهدات ما لبثت أن توقَّفت في ظل تردي الأوضاع الأمنية ووفاة العم نتيجة مرض أودى به نتيجة النقص الحاد في الكادر الطبي في البلاد، في تلك اللحظة وجد إشمائيل ذاته مرة أخرى في مواجهة الخوف بالعودة جنديا مرة أخرى، فساقته الأقدار في رحلة محفوفة بالمخاطر إلى غينيا حيث دخلها بطريقة غير شرعية ووصل إلى عاصمتها كوناكري، ومنها تلقى مساعدة من لورا سيمز صديقته القديمة في نيويورك التي ساعدته للانتقال إلى هناك وبدء حياة جديدة.
المقاربات عديدة تلك التي يمكن الوقوع عليها في هذا العمل الذي تمت ترجمته إلى 22 لغة عالمية، أبرزها تشابه الحال بين إشمائيل بيه والملايين من الأطفال العرب اليوم في مدن عديدة في سوريا والعراق واليمن، الملايين من الأطفال خارج المنظومة التعليمية في بلاد انهار فيها العقد الاجتماعي، فوجدوا أنفسهم فريسة لصراعات الكبار.

المصدر : صحيفة العرب
1