أحدث الأخبار
الأحد 28 نيسان/أبريل 2024
جمال جبران يعيش حكاياته مع شقيقه بعد رحيله!!
بقلم : سعيد خطيبي  ... 22.03.2016

يمكن أن نعوض شخصا مات، شخصا عزيزا أو حبيبا، نعوضه سرديا ونخلقه في متن حكائي ما، نرافقه فيه بين الأماكن والذكريات، وهذا تماما ما قام به الكاتب اليمني جمال جبران في كتابه “كتاب محمد” الذي أعاد فيه استحضار أخيه.
في “كتاب محمد” لجمال جبران، تتقاطع السّيرة الذّاتية بالسّيرة الجمعية، فالمؤلف لا يكتفي بتأبين شقيق متوفّى، بل يوسّع أفق الكتابة لسرد حكايات عائلة تتشابه في تفصيلاتها مع حكايات أيّ عائلة عربية أخرى، مع فارق أن صاحب الكتاب لا يُلزم نفسه سرديات متصالحة مع العادي، بل يجازف بحكي المباح وغير المباح في الأعراف الاجتماعية، يعلن من البداية قطيعة مع السائد، ويفضح المستور، بنبرة ساخرة أحيانا ومستاءة مما وصلت إليه حياته الأخرى، يُقدّم للقارئ بورتريه مختصرا عن صنعاء، ويدخل معه إلى حميميات النّاس، يفضح هشاشتهم، ويتبرأ من تاريخهم الشّخصي، الذي أرادوا أن يجعلوا منه تاريخا مشتركا بين الأفراد.
انطلاقا من المثل الهندي القديم الذي يقرّ بأن لا صداقة تعلو على صداقة الأخ، يعيد الكاتب اليمني جمال جبران كتابة سيرة شقيقه، في “كتاب محمد”، الصادر عن أخبار اليوم، قطاع الثّقافة 2015، ﻓمحمد ليس مجرد شقيق، بل هو كلّ شاب يمني، عاش الحروب الداخلية في اليمن، في صمت، تحمّل الانقسامات والنزاعات القبلية وتمزّقات البلد، ثم شهد اللحظة الأهمّ، لحظة الانفجار والانتفاضة الشّاملة عام 2011، قبل أن يغمض عينيه، ويجنّب نفسه المزيد من الانهيارات، والتي ازدادت قسوة، منذ سنة.
كان محمد جبران معلّما، مواطنا بسيطا في أرض خاضت المعارك كلّها ولم تتعب، معارك مع نفسها وأخرى مع غيرها، وربما صمت محمد وخجله المزمن من الصّراخ، تقبّله للخيبات، كتمه للغضب، “فوبياه” من النّظر في عيون النّاس، هو ما استفزّ شقيقه الكاتب جمال (1974)، ليدوّن سيرة، تتوزّع على بلدان عربية ثلاثة، لتحكي مصيرا واحدا في النهاية، مصير العربي الصّامت، الخاضع لسلطة القبيلة، وغير المتحرّر من قوانين الجماعة.
حين فقد الكاتب شقيقه (أغسطس 2012)، أدرك أن الحياة قد قصرت، أنّه صار أبا لأطفال أربعة لم يلدهم، وأن شقيقا واحدا بقي له بعد محمد، هو “تدوين الذاكرة”، فهو لم يكتب الكتاب دفعة واحدة، وبشكل خطيّ، بل ترك مساحة الحكي مفتوحة، رسم بورتريهات لأشخاص اشترك في معرفتهم مع محمد: أمه زمزم، إخوته وأخواته، جيرانه وحبيباته الصّامتات أيضا، المشتتون جميعهم بين صنعاء وأديس أبابا، والأمكنة الحميمة، التي ما تزال تحتفظ بحياة سابقة جمعت بينهما، لا تريد أن تخبو، هكذا راح جمال جبران يعيد تشكيل “بازل”، ويتذكّر بأن الفواصل التي ترسّخت في حياته مع شقيقه، ليست سوى نقاط تلاق سيدركها فقط حين يقف على جثّة شقيقه الباردة في المشفى. من هو أخ لك في الحقيقة، قد يكون خصما في الحياة، هي قناعة لم يهملها صاحب الكتاب، ﻓمحمد لم يكن، بالضرورة، الشّخص الحميم في حياة الكاتب، ولا علبة أسرار له، كما يمكن للقارئ أن يتوقع، بل كان ندا له أحيانا، سببا في أحزانه، التي ستتحوّل لاحقا إلى أرضية يعيد من خلالها النّظر إلى نفسه، فجمال جبران يحكي عن رجل متوفّى وعن نفسه، من دون أن يشعر، يعيد استحضار ما ضاع من طفولته، ويختفي خلف قصّة شقيق لينتبه أنه كان مثله: كائنا صامتا، لم يحرره من مكبوتاته سوى مهنة الكتابة.
يمكن للواحد منّا أن يعيش من دون أخ، لكن من الصّعب عليه أن يعيش من دون صديق، وهي قناعة التقطها الكاتب، لهذا جعل من شقيقه صديقا وندا في آن، ليستكشف معه الزّمن اليمني المتحوّل، خالفه في أشياء كثيرة، فقد كان محمد الأكبر سنا، لكن جمال لم يدرس تخصصا مماثلا لشقيقه كما أوحت له سلطة العائلة، لم يتزوّج مثله في ليلة واحدة حين سنحت له الفرصة، انسجاما مع أعراف عربية، استحوذ جمال على غرفة له وحده، وترك شقيقه الأكبر يقتسم فضاءاته الحميمة مع إخوته الآخرين، لم يجعل منه في “كتاب محمد” بطلا كما كان يجب أن يفعل الصّغير في حضرة الكبير، بل مشى على ذاكرته ليكتب نصّه الشّخصي الحميم، ليعيد تدوير الذّاكرة الموشومة، في مونولوغات أحيانا تذكّرنا بسرديات شخصية هارون في رواية “ميرسو، تحقيق مضادّ” لكمال داود.
حين يولد الإنسان سيسهل عليه، بطبيعة الحالّ، إيجاد والديه، التّعرف إليهما، لكن من الصّعب عليه أن يجد أخا له، أن يتقبل ما حمله له رحم أمّه، وجمال جبران صنع أخا له من لحظة وفاة شقيقه محمد، انتبه، في الأخير، إلى أن حياته مع محمد بدأت من جديد بعد رحيل هذا الأخير، هكذا دوّن سيرة أخ وسيرة عائلة، وأعاد كتابة هامش من التّاريخ العائلي للصّنعانيين.

1