أحدث الأخبار
السبت 27 نيسان/أبريل 2024
موسى حوامدة يكتب بمرقاب الرائي!!
بقلم : علي حسن الفواز ... 30.04.2014

يضع الشاعر موسى حوامدة عصاه عند حافة اليّم، باحثا عن نسقه السحري، النسق المضاد للموت، النسق المستعاد عبر الوسيط اللغوي، اذ تمارس العصا وظيفة (الشق) ووظيفة الاشهار بالهيمنة، واذ يمارس الشاعر استنطاق وسيطه ليكون توغلا، كشفا للغامض والملتبس.
هذا التموضع داخل اللغة يصطنع له بالمقابل مجرى تعويضيا عبر ما يستعيده الى اطراس النسق الشعري، اذ تتلبس اللغة بسحرية العصا الاستعارية، والشاعر يتلبس بقناع الرائي، والقصيدةبلبوس الموجة الرمزية، تلك الباعثة على استكناه لعبة الشاعر في حيازة الرؤيا، وفي البحث عن احالات تلامس ما يراهفي خفايا الوجود والمعنى، وعند طاقة الحياة تلك التي تشحن اللغة/ الوسيط، وتحررها من مقاربة الموت بوصفه المقابل للاحساس بالفقدان..
الشاعر في هذه اللعبة يمارس نوعا من التمرد، ونوعا من الاحتفاء بالحياة عبر استعادة الذات الوجودية، اذ يستعيدهابوصفها قوة وجودية، ومجالا لتبئير شعرية اللغة، وكذلك بوصفها نزوعا للتحقق في الوجود، وفي الفعل القصدي، ذلك الفعل الذي يخص الوعي- وعي الشاعر- ويساكنه على طريقة الظاهراتيين، وبما يتيح للقصيدةان تكون لعبة الشاعر في المواجهة والاستعادة، وان تكون الدرئية التي تمنعه من الانخراط التراجيدي والمباشر في فوبيا المتاهة، متاهة الفلسطيني الذي يحاصره العدو، والمنفى، والموت بمعناه المثيولوجي، وبمعناه الماكث في الصور المكرسة للنفي والغياب، او في في الصورة الحسية لموت الاب..
ازاء مهيمنة الموت تلك، تبرز قصدية اللغة، اللغة التي يكتب مدوناتها عبر مايرصده مرقابه الشعري، بوصف هذه اللغةالوسيط التعبيري، وبوصفها القوة الظاهراتية التي تبيح وعيه لمواجهة استيهامات امتلاك العالم عبر اللغة، تلك التي تدفعه للتورط في غواية البحث عن المزيد من الاستعارات البصرية والصورية المتوهجة،والضاجة ايضا باللذة، تلك اللذة التي تخص كشوفات الشاعر، وتلمساته للحياة والجسد والغياب، والتي تستنطق كثيرا حيز جملته الشعرية، اقصدجملة الصورة والفكرة والاختزال..
في مجموعته الشعرية (موتى يجرون السماء) الصادرة عنالهيئة المصرية العامة للكتاب/ القاهرة تبدو قابلية الشاعر على استعادة الموت بائنة، اذ هي لعبته التعبيريةعن الاحساس بالنقائض، والكشوفات. هذه اللعبة هيبؤرة الشعر التوليدية لحريته في تشكيل رؤياهوفي ابراز كثافة وعيه الوجودي لثنائيات الحياة والموت، والحضور الغياب، والفقد والامتلاء، وهو ما يعني اقتراح معاينة لهذا الوجود من خلال مرقاب الشعر، الذي يعني الرؤيا التي تتسع باتساع عمق المعاينة، والتي تجعل من القصيدة تملك بنية تزيينية، بقدر ما تملك بنية تصورية، اذ تنعكس هذه البنيات فعالية الشاعر الشخصية عبر مرقابه، وعلى توسيع مدياتصياغته للجملة الشعرية، فنجد فيها نوعا من السرد، ونوعا من البلاغة التي تنعكس على الوظيفة الجمالية/ التشكيلية بدءا من دالته التصويرية التي تقوم على تجريد وتنكير جملة العنوان، الى ما تبيحه للقراءة عناوين القصائد الاخرى، والتي تشكل باجمالها دافعا استعاريا لتجلية فعل الطاقة الشعرية المضادة للموت، وفعل الرؤيا المضاد للغياب، وبما يمنحها سلسلة من التحويلات التي تمنح التنكير سمة تعريفية عبر تشكل الحيز البصري للعنوان، في بنيته التشكلية التي تستثمر اللون والفراغ، فضلا عن توسيع تحققه الشعري عبر اشباع الجملة بوصفها الاستعاري لان تتحول في أغلب القصائد الى جملة ثقافية، فيها من المجاورة مثلما فيها من النسقية المضمرة للمهمش واليومي، لكن أيضا الموجهة للمتن النصيالمهيمن على شعرية المجموعة..
العتبة العنوانية التنكيرية (موتى) تضع القراءة أمام افتراضات التأويل، والتساؤل حول من هم هؤلاء الموتى؟ ولماذا يجرون السماء المعرّفة صرفيا؟ هذه الافتراضات هي موجهات قرائية بالاساس، اذ تحمل بعدا بصريا يستنطق من خلاله الشاعر الوجود الذي يضج بالاغتراب ويمور بالخديعة، ويتسع للموتى بدلالتهم الرمزية لان يكونوا هم القوة المسكوت عنها، وهم الاستعارة المهيمنة لجرّ السماء بدلالتها الرمزية أيضا..اذ يبدو فعل الموت هنا هو الفعل الاجرائي النقائضي، فعل المجازالذي يشحن الجملة الشعرية بطاقة سيميائية، اي أن الشاعر يضع هذه الجملة بوصفها علامةعلى ما يتبدى من مرائر الشاعر الذي يرى خساراته واندحاراته، مثلما يرى موتاه الخارجين من صناديق التاريخ والاوهام وهم أكثر تضخما بالمعنى الاستلابي للحياة…
حين يأتي الموت
لن أساومَه
لِيُحرِّضَ المُقرَّبين
على حفلات النواح؛
كُلَّما كان عددُ المشيعين أقلّ
كان ضميري أكثرَ بياضاً،
وكلَّما كانت الدموع أقلّ
كانت أخطائي أجمل.
لينصرفِ المُعَزّون
قبل تدشين البياض..
لينصرفوا؛
ليست لي حاجةٌ إلى مديح ناقص..
سلسلة الاحالات في قصائد موسى حوامدة تكشف عن وعي داخليللشاعر، وعي لا يقترن كثيرا بالمثيولوجي والديني والتاريخي، بل هو أكثر انحيازا لصياغة الجملة بوصفها جملة ثقافية تستعين بالصورة والفكرة، تلك الجملةتحاول أن تتمرد على المألوف وعلى الايقاع وحتى على الغنائي الذي تكرس كثيرا في القصيدة الفلسطينية، باتجاه الانغمار في فضاء تأملي، فيه الكثير من الاستعارات، والكثير من الرموز، وفيه الكثير من الهندسة البصرية، التي تستوعب الفاعلية الشعرية التي تنطوي على حركات تحيل الى الواقع، وتحيل الى الذات، وان التطابق بين ما تراه الذات في الواقع يظل هو الهاجس الحسي والتعبيري الذي يتحكم بالطاقة الشعرية لقصائد المجموعة، وكذلك بحركة التصوير الشعرية التي تدفع القصيدة الى توليد المعنى الشعري عبر الرؤية الشخصيةللشاعر، وليس لحكم النسق التاريخيالذي طالما استغرق القصيدة الفلسطينية، بوصفها قصيدة الانسان المنفي والمطرود والمحاصر، أي أن استغراق القصيدة هو استغراق الذات الوجودية التي ترفض مهيمنة الموت، وترى بالمقابل العالم من خلالها مرقابها ومزاجها أكثر من مرقاب التاريخ..
ليست ميتة هذه القصيدة
انها ترفو جوارب السماء
بخيط من نور
تحيك وجه الشرق
بعباءة فضية
تمسح جبين الغروب
بيد من ذهب..
ليست ميتة هذه القصيدة
انها حلم بحار أرعن
كسر الليل بطرطقة خاتمه
على دفة السفينة
خان البحر بغناء شجي…
قصيدةالمزاج والرؤيا هي قصيدة المرقاب، وهي السمة الغالبة في قصائد موسى حوامدة، اذ يسهم هذا المزاج الصاخب في تفجير مكامن شعرية خبيئة، تضج بالحياة والديمومة، مثلما تضج بوعي مفارق، وعي للتجاوز، وللتحول، وباتجاه أن تصبح القصيدة لعبة مجازية في الكشف، وفي أخذ العالم الذي تكشفه القصيدة الى المزيد من المواجهة، والى التخلص من ركام الغبار التاريخي، لتكون عندئذ القصيدة في نوبة دائمة من الاستنفار، الاستنفار المضاد للموت، وللسخرية منه، ليس بوصفه المثيولوجي بل بوصفه الموت الوجودي الذي يتحول الى عملية مرعبة لتهميش الانسان في الجمع ولسحقه بعيدا عن التلذذ الشخصي بالامل والمعنى والبياض..
كلما كان عدد المشيعين أقل
كان ضميري أكثر بياضا
وكلما كانت الدموع أقل
كانت أخطائي أجمل…..
*كاتب وناقد عراقي

المصدر : القدس العربي
1