أحدث الأخبار
السبت 27 نيسان/أبريل 2024
قائد الحرب الوطنية.. وعنوان الديمقراطية الشعبية!!
بقلم : عبد الحليم قنديل ... 14.10.2013

يبدو الفريق أول عبد الفتاح السيسي في صورة الحل السحري والمنقذ والمخلص في نظر الغالبية الهائلة من المصريين .
وفي أول حوار صحافي مصري مع الفريق السيسي، سئل الرجل عن احتمال ترشحه في انتخابات الرئاسة، وكان الجواب مفتوحا لا مغلقا هذه المرة، ففي مرات سابقة كان الجواب أميل للنفي والامتناع، وفي هذه المرة كان الجواب على طريقة ‘الوقت غير مناسب للسؤال’ و’الله غالب على أمره’، وهو ما فهم من قبل الكثيرين كموافقة مبدئية، أو استعداد للتجاوب مع مطالب شعبية تتسع دوائرها، وتلح في ترشحه، وتلك ظاهرة نتوقع تزايد ضغوطها على منحدر الشهور المقبلة إلى يوم انتخابات الرئاسة المصرية .
ولا يخلو الأمر من معارضة نخب بعينها لمبدأ ترشح الفريق السيسي، خاصة نخب جماعة الإخوان ومن والاها، أو نخب ‘الليبرالية الجديدة’ المتصلة بدوائر التأثير الأمريكى، وشعار هؤلاء يبدو بسيطا ومغريا، وإن كان ملغوما ومريبا، فهم يقولون لك انهم ضد ترشح السيسي لأنه رجل عسكري، وان الثورة المصرية المعاصرة قامت ضد ‘حكم العسكر’، وهذه مغالطة تاريخية مفضوحة، فقد قامت الثورة ضد حكم مبارك، ثم توالت موجاتها اللاحقة ضد حكم مجلس طنطاوي وعنان، ثم ضد حكم الإخوان الذي كان نسخة كاريكاتيرية من حكم مبارك، وصحيح أن مبارك شخص من خلفية عسكرية، لكن المصريين لم يثوروا ضده لأنه عسكري، بل لأن اسمه حسني مبارك، والاسم في ذاته عنوان على مرحلة انحطاط تاريخي طويل، بدأها الرئيس السادات ـ وهو عسكري أيضا ـ بانقلابه على اختيارات ثورة عبد الناصر عقب حرب أكتوبر 1973، وقد كان عبد الناصر بدوره من خلفية عسكرية، لكنه صار أبرز زعيم شعبي في تاريخ مصر المعاصرة كلها.
وبعد ثلاث وأربعين سنة على رحيله، يبدو اسم عبد الناصر الأكثر شعبية في مصر وعموم الدنيا العربية، والمعنى ظاهر، فليست الخلفية المهنية هي التي تصنع الفرق، بل الدور السياسي، والاستعداد الشخصي، وقبول الناس.
وبعد الموجة الأولى من الثورة في 25 يناير 2011، بدت مقدرة الشعور الشعبي هائلة على فهم وفرز معادن الرجال، فلم يتمتع المشير طنطاوي ولا الفريق عنان بشعبية تذكر، وانتهى الرجلان إلى خيمة الظلال الباهتة. وعلى العكس تماما من صورة الفريق السيسي الذي خلف المشير طنطاوي، رغم أن عمل طنطاوي مع الثورة يشبه عمل السيسي، فقد انحاز الجيش بقيادة طنطاوي إلى الثورة، وعزل مبارك، تماما كما انحاز الفريق السيسي إلى موجة الثورة الثالثة في 30 يونيو 2013، ونفذ أمر الشعب بعزل مرسي، وقد كان الأخير من خلفية مدنية، وكان مهندسا على حد التوصيف الوظيفي في بطاقة الرقم القومي، لكنه لم يصل في السياسة والحكم إلى مرتبة ‘عامل المحارة’، وبدا كأنه عسكري أمن مركزي في تلقى وتنفيذ أوامر قادته في مكتب إرشاد الإخوان، والمعنى بسيط وقاطع، وهو أن الخلفية المهنية ليست معيار النجاح أو السقوط، فقد تجد مدنيا صالحا وآخر طالحا، وفي العسكريين ـ أيضا ـ صالحهم وطالحهم، وهذه قاعدة ثابتة في تاريخنا وفي تواريخ الآخرين. فالجنرالان أيزنهاور وديغول توليا رئاسة أمريكا وفرنسا على التوالي، والرئيس الحالي لأندونيسيا ـ أكبر بلد في العالم الإسلامي ـ جنرال ووزير دفاع سابق، وجرى انتخابه بعد فشل الرئيسين المدنيين عبد الرحمن وحيد وميجاواتي سوكارنو، ثم أن الجيش المصرى ليس عسكرا ولا معسكرا، ولم ينشأ بطابع طبقي ولا بطابع أيديولوجي، وهو مؤسسة رفيعة الاحتراف والانضباط، وظلت واحدة من أهم مزارع ومدارس الوطنية المصرية، وهو جيش أحمد عرابي وجمال عبد الناصر. وقد حلت بجيشنا مراحل ضعف هي ذاتها مراحل الانحطاط الوطني العام، وهو ما يفسر تواضع وسوء صورة جنرالات من نوع طنطاوي وعنان، وركود وبلادة شخصية مبارك التي ألقت ظلالها الكئيبة على الجيش، وقد بدا السيسي ـ في ظل هذه الصورة ـ فلتة حقيقية، فقد بذل جهدا جبارا في إعادة تنظيم الجيش ورفع كفاءته القتالية، واستعاد للجيش احترامه التقليدى الراسخ عند المصريين، وكان ذلك انجازا رفيعا يحتسب للرجل، فقد تدهورت مكانة الجيش على أيام طنطاوي وعنان، وكان بؤس أداء الرجلين، إضافة إلى بؤس السيرة هما السبب، بينما بدت صورة السيسي ناصعة بالمقابل، فلم يأخذ الرجل سنتيمتر أرض في عصر الفساد المعمم زمن مبارك، ولم تلحق به ولا بعائلته شبهة فساد أو تربح أو استغلال نفوذ، وبدا الرجل جنرالا كفؤا نظيف اليد، ولم تشب سيرته العسكرية غلظة ولا مظهرية كالتي كانت لطنطاوي وعنان وأترابهما، ومن هنا بدا السيسي قائدا يليق بأعرق التقاليد الوطنية للجيش المصري .
غير أن صورة السيسي ـ شعبيا ـ بدت أوسع نطاقا من مجرد كونه قائدا يليق بالجيش المصري، وقد مرت على قيادة الجيش أسماء كثيرة، لكنها لم تحظ بقبول الناس، ولا ذاع صيتها خارج دائرة المهنة العسكرية، خاصة في جيش لم يخض حربا وطنية بعد ملحمة أكتوبر 1973، فالحروب هي التي تفرخ القادة العظام، وقد بدا السيسي عنوانا لحرب وطنية من نوع مختلف، ليست الحرب في عزل مرسي بالطبع، فقد انتهى أمر مرسي مع خروج عشرات الملايين المصريين في ‘تمرد’ الثلاثين من يونيو، وكان الفشل المذهل لجماعة الإخوان هو الذي أسقط مرسي، وكان انحياز السيسي لإرادة الشعب من بداهات الحالة الوطنية المصرية.
بعدها بدأت الحرب الوطنية الجديدة التي يقودها السيسي، وهي حرب بالمعنى الكامل للكلمة، تحول فيها التنظيم الدولي للإخوان إلى عدو خارجي بعد فقدانه عطف الداخل.
وانتظمت فيها أدوار ظاهرة للمخابرات الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية مع المخابرات التركية الأطلنطية، وتدفقت فيها مليارات عابرة للحدود، وتضخمت جيوش إرهاب بأسلحة بالغة التطور، عبرت الحدود السائبة من الشرق ومن الغرب، وتكدست ملايين من قطع السلاح ـ الليبي بالذات ـ في الداخل المصري، وبدت سلطة الدولة متآكلة في إطراد، بل تواطأ رأس الدولة ـ على عهد مرسي ـ على هدم الدولة، وقبلها كان تراخي سلطة المجلس العسكري على عهد طنطاوي وعنان، وهو ما يفسر سر الثقة الغبية التي بدا عليها خيرت الشاطر ـ ملياردير الإخوان ـ في حوار جرى مع السيسي قبل ثورة 30 يونيو 2013، فقد هدد الشاطر بتحرك جيوش الإرهاب إذا سقط مرسي، وهو ما يحدث الآن بالضبط، بدءا من حرب سيناء إلى مظاهرات الإخوان في القاهرة، التي تحاول تعويض ضعف الحشود باللجوء إلى العنف، والدفع إلى إسالة الدماء وتساقط الضحايا بالمئات، وتصدير الصور طلبا لتدخل أمريكا بصفتها ‘المجتمع الدولي’ المخاطب في بيانات قيادة الإخوان، وهنا تظهر ملامح مضافة تزيد من تألق السيسي، فهو يقود حربا وطنية محترفة لإنقاذ مصر من خطر داهم، ويحرص في الوقت نفسه على التسريع ببرنامج الانتقال للحكم الديمقراطي، وكلما زاد حنق الإخوان عليه، وكلما أوغلوا في سبه وشتمه، زادت شعبيته، إلى حد يصح معه القول بدور لاإرادي للإخوان في دعم شعبية السيسي، ففي أوقات الحرب، يصطف الناس ضد الغزو الخارجي، وقد نجح الإخوان في تصوير أنفسهم كقوة غزو بامتياز، فقد يكسبون عطفا في الغرب المعادي بالطبيعة لقضية الاستقلال الوطني المصري، لكنهم يكسبون ـ بالمقابل ـ كراهية مفزعة في الداخل المصري، ويصعدون بشعبية السيسي إلى أعلى ذراها، فالرجل هو عنوان التصدي للخطر، ويبدو إلى ذلك رجلا متدينا متواضعا، ومثقفا إلى حد مدهش، وصاحب رؤية وطنية مصرية خالصة، يجيد فنون التواصل مع عموم الناس، ويمتاز بخطاب عاطفي تلقائي مؤثر في قلوب المشاهدين والسامعين، فالسيسي ليس ـ فقط ـ عسكريا مختلفا، بل رجلا مختلفا بالجملة، وبتكوين ذاتي يوحي بالثقة، ويستعيد إيحاءات من صورة عبد الناصر المحفورة في وجدان المصريين، ويبدو كأنه عبد الناصر جديد في ظروف مختلفة، وكاتبه المفضل هو الأستاذ محمد حسنين هيكل، وهو نفس الكاتب الاستثنائي الذي اكتسب مكانته بحواره وجواره مع جمال عبد الناصر .
وبالجملة، تبدو صورة السيسي مزيجا من دورين، دور القائد للحرب الوطنية، ودور العنوان للديمقراطية الشعبية في الوقت نفسه، وفرصته مؤكدة في فوز انتخابي ساحق لو انتهى إلى قرار الترشح، وأغلب الظن أنه سيفعل .
*كاتب مصري

المصدر : القدس العربي
1