أحدث الأخبار
الجمعة 26 نيسان/أبريل 2024
بابا الوطنية المصرية!!
بقلم : عبد الحليم قنديل ... 28.10.2013

بالطبع، نتمنى أن يكون الاعتداء الإرهابي على المسيحيين المصريين في ‘كنيسة الوراق’ هو الأخير من نوعه، وإن كان ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فثمة مخاض عنيف يجري في مصر الآن، تولد فيه ‘مصر الجديدة’ معافاة نقية خالصة مبرأة من شوائب وركام زمن الاحتقان الطائفي والمفاصلة الطائفية.
ويلحظ المراقب المدقق تغيرا هائلا في مزاج الرأي العام المصري، فلم تعد لغواية الشحن الطائفي، ذات البريق الذي كان لها، ولم تعد أحزان المسيحيين تخصهم، بل صار الحزن مصريا وطنيا جامعا، ليس فقط لأن الضحايا الذين سقطوا في الحادث الإرهابي الأخير من المسيحيين والمسلمين معا، وليس فقط لأن الضحايا سقطوا في حفلة عرس كانت مقامة في الكنيسة، بل لأن شيئا مهما تغير في مزاج المصريين، فلديهم ـ أي لدى غالب المصريين ـ إحساس متنام بطابع المرحلة، ولديهم شعور بالعيش المشترك في مرحلة كفاح وطني لاسترداد البلد، وفي سياق ثورة عظمى أطاحت بنظامين في ثلاثين شهرا، وتواجه لحظة اختبار عند مفارق الطرق، وتتكاثف ضدها حملة دولية غربية تشبه الحرب الفعلية، تدور رحاها من معاقل الإرهاب في سيناء التي يعاد استردادها، إلى مدن القتال الوطني على خط القنــــال، إلى أعماق الوادي في الدلتا والصعيد، وقد جرى إحراق عشرات الكنائس والمنشآت المسيحية، وكأنها محاولة لشق بطن مصر الرخوة، وإشعال حرب طائفية، تستدعي تدخلا خارجيا خشنا، وعلى نحو ما يأمل الذين فقدوا ملكا لم يصونوه كالرجال، ثم يبـــكون عليه الآن كالنساء، ويتاجرون بالدم طلبا لعطف ما يسمونه بالمجتمع الدولي، وكلها ألعاب صغيرة، تنفق فيها مليارات، وتتواطأ فيها أجهزة مخابرات كبرى دولية وإقليمية، لكنها تخطئ العنوان بالتأكيد، فمصر ليست كغيرها من بلاد الموزاييك الطائفي، مصر بلد عريق عظيم التجانس، قد تضعف وتمرض أحيانا، لكنها ـ كالعنقاء ـ تقوم دائما من رماد، وتنهض لملاقاة التحدي، وتجتمع كقبضة يد في لحظة صناعة التاريخ.
ودعك ممن يذرفون دموع التماسيح، أو ممن يدينون أو يستنكرون، ذرا للرماد في العيون، بينما الكل يعرف أنهم الفاعلون، وبالتحريض أو بالتنفيذ، وفي كل حوادث الإرهاب التي تدور في مصر، وليس ـ فقط ـ في حوادث الإرهاب المستهدفة للمسيحيين أو الكنائس، فلم يعد الوقت يحتمل خداع الصور، ولا التفرقة بين المصريين على أساس طائفي، فالمصريون هم مصر، وهم رأسمال الضمير والحياة فيها، والخنادق الآن لا تتحدد على أساس طائفي، سعت الثورة المضادة إلى تكريسه، بل على أساس وطني جامع، لا يفرق فيه أحد بين دم ودم، فالدم المصري كله حرام، وإن كان الفارق ملحوظا في مغزى الدم، فالدم الذي يبذل من أجل تحرير مصر ليس كالدم الذي يسيل من أجل تركيعها، والبسطاء ـ قبل الفقهاء ـ يعرفون فوارق المغزى، فثمة دم يراق في موارد التهلكة، وثمة دم يذهب إلى موارد الشهادة، وإعادة بناء المشروع الوطني، وبحركة الناس الأحرار هذه المرة، وليس بحركة الضباط الأحرار، كما كانت عليه قصة ثورة 23 يوليو 1952.
ومن أبجديات المشروع الوطني نفي الفتنة الطائفية واجتثاث دواعيها، فلم تعرف مصر أبدا شيئا اسمه الفتنة الطائفية، في زمن المشروع الوطني، ولم يرد ذكر لحادثة طائفية واحدة في سنوات الخمسينيات والستينيات، ومع الانقلاب على المشروع الوطني الجامع، وبالتوازي مع انقلاب الثورة المضادة زمن الرئيس السادات، صارت الفتنة الطائفية خبز مصر اليومي، خاصة مع لجوء الثورة المضادة إلى استنفار ديني كذوب، واستخدام الدين ستارا لتغطية الخيانات لله ورسوله والمؤمنين، بالانقلاب على حركة النهوض والتصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية، وبالاتجاه إلى الاستسلام لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، وتحويل أمريكا من عدو إلى كفيل، وتشقيق الوجدان الوطني المصري، وهو ما يفسر المفارقة الملتاثة التي جرت، فقد كان السادات ـ مثلا ـ يقول لك انه رئيس مسلم لدولة مسلمة، وكان سدنته ينعتونه بصفة ‘سادس الخلفاء الراشدين’، كانت هذه ‘الإسلامية’ الكاذبة توالي تخرصاتها بالتوازي مع عقد معاهدة العار المسماة بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وبالتوازى مع مدائح السادات ـ المنعوت بخليفة المسلمين ـ لصديقه مناحم بيغن.
وتوالت فصول الملهاة التي تحولت إلى مأساة، وبدا أن مصر ـ عبر أربعة عقود أخيرة ـ قد انقسمت مجازيا إلى دولتين، دولة للمسلمين يترأسها السادات ثم مبارك، ودولة للمسيحيين تراجعت إلى داخل أسوار الكنيسة، ويترأسها البابا شنودة الثالث، وقد كان الأخير رجلا قويا، وظل على رأس الكنيسة لمدة جاوزت الأربعين سنة، واستحق لقب ‘بابا العروبة’، حين وقف ضد التطبيع مع الإسرائيليين، ورفض حج المسيحيين إلى القدس المحتلة، وكان يقولها بصراحة ‘لن أسمح بأن يوصف المسيحيون بأنهم خونة الأمة العربية’، كان موقف البابا شنودة وطنيا مصريا عروبيا بامتياز، وكان موقفه أفضل بمراحل من مواقف مشايخ خانوا عهود الأديان والأوطان، غير أن البابا شنودة ـ رغم موقفه الوطني ـ استمرأ حالة الدولتين المجازيتين في مصر، وحول الكنيسة إلى دولة منفصلة للمسيحيين، وكان يدير علاقاته مع دولة مبارك كدولة مجاورة، تشهد العلاقات بينهما تجاذبات وتضاغطات، ثم تشهد أزمات في لحظات الحوادث الطائفية، وإن ظل الاعتراف المتبادل قائما، وهو ما يفسر تأييد البابا شنودة لرئاسة مبارك ولتوريث نجله جمال مبارك، فقد كان الأمر عنده متعلقا بقوم آخرين هم المسلمون، بينما لا رأي للمسيحيين الذين احتبسهم في صوته الشخصي.
وبدت القصة مما يروق لتيار اليمين الديني، ولجماعاته التي تحبذ المفاصلة الطائفية على أساس ديني، ووفقا لتفسيرات صحراوية تراكمت كبثور على وجه التحضر المصري، ثم جاءت الثورة ضد ‘الثنائيات اللعينة’، ضد ثنائية مبارك والإخوان، وضد ثنائية مبارك والبابا شنودة، وشهدت موجة الثورة الأولى ـ في 25 يناير 2011 ـ أول خروج واسع من شباب المسيحيين على تحكم البابا شنودة، خرجوا من أسوار الكنيسة إلى الفضاء الوطني الواسع، وإلى فرصة الامتزاج المصري مجددا، وهو ما بدا تطورا مخيفا لجماعات ‘اليمين الديني’ الزاحفة إلى قصور السلطة بعد خلع مبارك، التي يفيدها أكثر عزل المسيحيين في قفص الكنيسة، فزادت خطابات تنفير المسيحيين، وزادت معدلات حوادث الفتنة الطائفية واستهداف المسيحيين، وإلى أن ولدت النعمة من قلب المحنة، وتبين للمصريين خواء شعارات ‘اليمين الديني’ التي خادعتهم طويلا.
وكانت التجربة خير برهان، فقد أزالت المساحيق الدينية، وكشفت تطابق اختيارات الإخوان مع اختيارات مبارك، وبمعدلات شحن طائفي أكبر، تذكر ببداية قصة الثورة المضادة زمن الرئيس السادات، وبدا الارتباط موحيا في وجدان المصريين الوطني، ثم كانت الاستجابة الإعجازية لمبادرة شباب ‘تمرد’، وكانت الموجة الأعظم للثورة المصرية المعاصرة في 30 يونيو 2013، التي امتزج فيها الوجدان مع أبدان المصريين كما لم يحدث منذ حرب أكتوبر 1973.
نعم، لا تزال الثورة تعاني، فهي لم تحكم بعد، ولم تهزم جماعات الثورة المضادة بصورة نهائية حاسمة، فجماعات الثورة المضادة تتناوب على الحكم، وبعد كل موجة ثورية، يأوي الناس إلى بيوتهم، ثم يحكم ‘الأغيار’، لو جازت استعادة المصطلح اليهودي، لكن الإنجاز الحاسم للثورة ـ إلى الآن ـ ظهر في الشارع لا في السلطة، ظهر في تغير مزاج المصريين، ووعيهم لخطورة اللحظة، وهو ما يفسر انخفاض منسوب الشعور الطائفي، وارتفاع منسوب الشعور الوطني الجامع، ولعلها كانت مصادفة بليغة المغزى، أن توفي البابا شنودة مع صعود الإخوان للحكم، وأن خلفه البابا تواضروس، الذي صار رقما مهما في معادلة 30 يونيو وما تلاها، حافظ على تقاليد الكنيسة الوطنية، لكنه أضاف شيئا مهما جدا، فقد فك قبضة التحكم الكنسي في سلوك المسيحيين السياسي، وشجع على خروجهم من أسوار الكنيسة، وعلى اندماجهم في المجموع الوطني الساعي إلى تغيير ثوري شامل.
وحين أحرق الإرهابيون كنائس بالجملة، لم ينجرف الرجل إلى اجترار أحزان طائفية، وأطلق تعبيره الشهير ‘كنائسنا فداء لمصر’، وهو ما جعل أحزان المسيحيين وجعا وطنيا عاما، استحق معه الرجل لقب ” بامتياز.
*كاتب مصري

المصدر : القدس العربي
1