أحدث الأخبار
الاثنين 30 كانون أول/ديسمبر 2024
حوار : التحرر من السردية التوراتية في كتابة تاريخ فلسطين!!
بقلم : الديار ... 12.02.2023

د. محمد مرقطن: "هذه ذاكرة المكان وروايتنا ليست حصرية لأن الشعب الفلسطيني هو خلاصة التجربة الإنسانية البشرية على ارض فلسطين، منذ أقدم العصور وحتى اليوم، ولا يهمنا إذا كانوا من عبدة "البعل" أو من بحر إيجة أو غيرهم".
في دراسة له حول "دور الرحالة الغربيون والاكتشافات الأثرية في فلسطين في التمهيد للمشروع الصهيوني"، يشير عالم الآثار الفلسطيني، د. محمد مرقطن، إلى استقطاب فلسطين، بحكم مكانتها الدينية، مجموعة ضخمة من الرحالة والباحثين الأوروبيين في القرن التاسع عشر، وهم من الحجاج الذين جاؤوا بدوافع دينية توراتية بالدرجة الأولى، وتطور أمر دراسة فلسطين تحت باب الاستشراق وكيف كان الرحالة يتشكلون تقليديا من الحجاج ثم تطور الأمر إلى المستكشفين ثم الباحثين، وأن الهدف الأساسي في هذه الفترة كان استعماريا بامتياز رغم وجود بعض الرحالة الذين جاؤوا لأسباب سياحية، وإن ارتبط بعضها بالدوافع الدينية والعلمية والاقتصادية.
ويقول مرقطن، إن اهتمام الحجاج الأساسي ينصب على الأماكن المقدسة في فلسطين، فلم يكن يهمهم شيئا في ما يتعلق بأرض فلسطين أو بمن فيها، وكانوا يركزون على الأماكن التي يستطيعون تحديدها أو أماكن يتصورون أنها مذكورة في الكتاب المقدس وترك لنا الرحالة عشرات الكتب والتقارير التي تتسم بالطبيعة الاستشراقية، راسمين صورة لفلسطين تلائم الذهنية الأوروبية، والغربية عموما، أصبحت في وقت لاحق مادة دسمة للحركة الصهيونية، وقد تفاوتت هذه الصورة بين الحزن على الأرض المقدسة التي يسكنها أقوام بدائيون، بحسب رأيهم، والصورة المتخيلة والرومانسية والأسطورية المرسومة في أذهانهم تحت تأثير نصوص الكتاب المقدس، وقد وصف برنارد لانغ، أحد علماء الاثنولوجيا الألمان الباحثين والرحالة في فلسطين بأنهم خدموا كجواسيس للدول الغربية الاستعمارية وكانوا ذراع تلك الدول لتحقيق أهدافها الاستعمارية.
وينوه الباحث الفلسطيني، إلى ارتباط علم الآثار منذ تأسيسه في أوروبا في القرن التاسع عشر بأجندات قومية، وبإعادة صوغ الروايات التاريخية بناء على المصادر التاريخية أو الأثرية القديمة وهي التي غالبا ما تتعرض للتلاعب من أجل دعم أغراض سياسية وتحقيقها وتثبيت حدود سياسية، وهو ما فعلته الدول الاستعمارية لتحقيق أهداف خاصة بها في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
ويؤيد ما ذهب إليه الكثير من الباحثين في اعتبار ما يسمى علم الآثار التوراتية من أهم الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل، حيث دعمها بصيغة رواية الآثار التي ما زالت تستخدم "الرواية التاريخية التوراتية" وتدعمها بصيغة "رواية الآثار التوراتية"، لكي تعزز سلطتها على الأرض وتعطيها شرعية الوجود، ويرون أن التأسيس للرواية التاريخية التوراتية ورواية الآثار التوراتية جرى بفعل ما قام به رحالة ورواد "علم الآثار التوراتية" في القرن التاسع عشر، ثم تكوين ذلك في عهد الانتداب البريطاني في فلسطين، وتحويلها إلى مؤسسة أيديولوجية تزعمها جنرالات عدة مثل يغال يادين وموشيه دايان.
وكانت فلسطين عبر تاريخها الطويل تمثل للعالم الغربي وذاكرته الجماعية نموذجا أساسيا لذاكرة المكان، فهي بالنسبة إليهم "الأرض المقدسة" وكذلك "أرض الميعاد"، وهي في ذاكرتهم أرض المسيح وأرض الرب وأنبياء التوراة، وهي أرض اليهود. ويدور معظم كتب الرحالة والحجاج ورواد علم الآثار في فلسطين حول مسألة القصص التوراتي.
وخلص مرقطن إلى نتيجة مفادها بأن الهم الأساسي لتلك الكتب في البعد السياسي كان إعادة استرجاع الأسطورة وإعادة إحياء "دولة داوود وسليمان"، ويشير في هذا الصدد إلى تلخيص لتاريخ أدب الرحالة وعلم الآثار قدمه مؤسس علم الآثار التوراتية العالم الأميركي وليام فوكسويل أولبرايت بأن ولادة إسرائيل تحقيق لرؤيا نبوية، وأن ذلك كان بجهد المسيحيين واليهود معا لإعادة اليهود إلى فلسطين، وتتجلى قمة صناعة الرواية في استخدام الاكتشافات الأثرية في إعادة إحياء الأسطورة لشرعية الدولة العبرية في كثير من الحفريات الأثرية في فلسطين وفي تفسير اللقى الأثرية كافة بناء على القصص التوراتية الذي يفتقد الشواهد العلمية.
وكان مرقطن قد دعا في مداخلة قدمها في منتدى فلسطين الذي انعقد مؤخرا في الدوحة إلى تحرير كتابة تاريخ فلسطين من السردية التوراتية التي توظف من قبل الحركة الصهيونية منذ تأسيسها لمحو الذاكرة الثقافية والتاريخية الفلسطينية من خلال طمس المعالم التاريخية ومحو رموز الثقافة وأماكن الذاكرة الفلسطينية وإخراج الشعب الفلسطيني من التاريخ.
وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" الباحث وعالم الآثار، د. محمد مرقطن، لإلقاء مزيد من الضوء حول هذا الموضوع.
"عرب 48": لماذا يجب تحرير كتابة تاريخ فلسطين من السردية التوراتية وكيف يمكن ذلك في ضوء إشكالية النص الديني؟
د. محمد مرقطن
مرقطن: برأيي إن مسالة التحرر من السردية التوراتية ضرورية، لأنها بطريقة أو بأخرى إحدى الأساطير المؤسسة للصهيونية وهي تعتمد عليها في تسويغ وتدعيم مشروعها الاستعماري في فلسطين.
أما ما قلته حول إشكالية النص الديني فالسردية الدينية ذات حدين، عندنا النص التوراتي، وأنت تعرف أنه وفق التراث العربي الإسلامي عندما نقول "توراة" نقصد "العهد القديم" بشكل عام لكن التوراة هي معروفة بالكتب الخمسة الأولى لموسى، كذلك لدينا اعتقاد سائد بأن التوراة محرفة، وبالعموم هناك أكثر من مشكلة في السردية التوراتية.

وأنا أعتقد أنه رغم احترامنا للكتب الدينية فإن السردية التوراتية لها حد الرواية الدينية التي هي مسألة إيمانية، بغض النظر إذا كنت تتقبلها أو لا تتقبلها، والحد الثاني هو السردية الأسطورية، إذ أن النص التوراتي مليء بالأساطير، فعلماء اللاهوت في القرن التاسع عشر قالوا "مساء النور" و"شعب النور" و"احتلال المدن" وغيرها من هذه المسائل الأسطورية التي كتبت لاحقا.
لذلك عندنا "النص الديني" و"النص الأسطوري" و"النص التاريخي"، فمسألة المعتقد الذي دخل الإسلام و"سيدنا داوود" و"سيدنا سليمان" نقول هذا ندعه جانبا لأنه مسألة معتقد، ولكن العهد القديم كما قلنا مليء بالأساطير التي ليس من الضروري أن ندخل فيها.
تبقى مسألة "الرواية التاريخية" والسؤال هو إلى أي حد يمكن التعامل مع ما كتب في "العهد القديم" على أنه أحداث تاريخية، هذا أمر يشوبه الكثير من الشك، وبالتالي لا بد لنا عندما نكتب تاريخ فلسطين أن نكون نقديين وأن نتحرر من النص التوراتي، نص العهد القديم.
على سبيل المثال مسألة الإباء، "إبراهيم ويعقوب.." فكما هو معروف فإن علم الآثار لا يوفر لنا أي دعم أو أي دليل على وجود "سيدنا إبراهيم" و"سيدنا يوسف" ولا "يعقوب" وغيره من الإباء في هذه البقعة الجغرافية بالذات، ولذلك يجب أن نتعامل مع تلك النصوص بشكل نقدي وألا نأخذها كأحداث تاريخية مسلم بها، نعم نحن نحترم ونجل سيدنا إبراهيم ولكننا لا نعرف طريقه ولا أين عاش، وهم أنفسهم متشككون في الفترة الزمنية التي عاش فيها، وآخر صرعة ما خرج علينا به فاضل الربيعي الذي أراد تثبيت أحداث التوراة في اليمن.
"عرب 48": لعل السؤال هو ليس عن وجود أثر لليهود في هذه البلاد وحتى أنبياء على غرار داوود وسليمان، بل حول ما ينسب إليهم من دول وممالك ومعابد تدعي الصهيونية أنها وجدت لإعادة مجدها المنهار، استنادا إلى "وعود إلهية"؟
مرقطن: أنت تعرف أنه وفق نصوص العهد القديم هم ملوك وليسوا أنبياء، كما نؤمن نحن، الآن هل شخصية "سليمان" مثلا هي نفسها الموجودة في القرآن، بالمقابل نحن لا نعرف شيئا من الآثار ولا من النصوص التاريخية لا عن داوود ولا عن سليمان.
كل هذه الحفريات لم تأت بشيء يؤيد وجود هؤلاء وممالكهم المزعومة في هذه البلاد، خذ مثلا "النقش الآرامي" الذي اكتشف في تل القاضي (تل دان) هذا النقش الذي رقصوا به وله والمقالات التي كتبت عنه في الغرب لا تعد ولا تحصى، هو عبارة عن ثلاث كسرات غير متلائمة مع بعضها البعض ولذلك يميل معظم الباحثين إلى تكذيبه.
أما بالنسبة لمملكة داوود وسليمان بالقدس، فقد كانت على ما يبدو عبارة عن بلدة بسيطة في القرن الرابع بـ"تل العمارنة"، وهي كما يظهر قلعة مصرية أكثر منها مدينة كبيرة، وبالنسبة لـ"هيكل سليمان" فإنهم لم يتركوا حجرا إلا وقلبوه ولم يجدوا أثرا لا لسليمان ولا لمعبده.
"عرب 48": والكلام عن برج داوود ومدينة داوود التي "يحرثون" سلوان لإعادة بنائها؟
مرقطن: يبدو أنها من خيال الكاتب بعد 600- 800 سنة من الحدث، وكما هو معروف فإن التوراة كتبت في فترات لاحقة، علما أن أقدم حدث يؤيده اللاهوتيون يقع بمسافة 500 سنة قبل الميلاد، في حين أن الاعتقاد بأن سليمان وداوود عاشا بمسافة 800- 900 سنة قبل الميلاد.
نقطة أخرى ترتبط بالنص التوراتي هي "مملكة إسرائيل" و"مملكة يهودا"، فالنقوش الموجودة لا تستخدم أي نقش منها مصطلح "مملكة إسرائيل"، هناك النصوص المسمارية تقول بيت "حومري" أو بيت "عمري" في إشارة إلى عائلة. وفي مسألة "التوحيد" لا توجد إشارات إلى وجود "توحيد" بمعنى التوحيد، في القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد.
ولا يوجد خارج النص التوراتي أي نصوص أو دليل على وجود ما يسمى بـ"مملكة إسرائيل" والأصح أن نسميها مملكة "شكيم" لأن "شكيم" بالنصوص المصرية بالألف الثاني قبل الميلاد أو "مملكة نابلس" لأن نابلس، وحتى السامرة مذكورة في المسماريات لفترة محدودة كمدينة في المنطقة.
أما ما يسمى بـ"مملكة يهودا" فهي اسم مقاطعة كانت موجودة حول القدس لا تتجاوز مساحتها مساحة "العروب" قضاء الخليل، وقد ذكرت المصادر التاريخية اسمها دون ذكر مملكة وقد وجدت في القرن السابع والسادس قبل الميلاد أشبه بمقاطعة وكشفوا عنها بعض "الأختام" وعلى الأغلب أنها مقاطعة فارسية وكانوا مسؤولين عنها في القدس غالبا.
أما بالنسبة للآلهة فقد جرى اكتشاف نقش عبري للآلهة "يهوه" وزوجته من القرن السابع قبل الميلاد، منقوش على صخرة في شمال شرق العقبة - إيلات، أي مثله مثل الآلهة "بعل" الكنعاني وزوجته. باختصار لم يكن عبر التاريخ من 1200 سنة قبل الميلاد أي دولة لمجموعات يهودية.
"عرب 48": هم يتحدثون عن مملكتين لم تدم أي منهما أكثر من 80 سنة "الحشمونئيم" و"يهودا"؟
مرقطن: "الحشمونئيم" هذه في العصر الهيليني أي 100- 200 سنة قبل الميلاد، ولكن إذا أخذت "مملكة إسرائيل" التي يقولون إنها كانت في القرن العاشر والتاسع فهم عندما يقسمون جغرافية فلسطين يقسمونها إلى قبائل (أسباط) وافتراضيا فإن عكا والمنطقة المحيطة بها تابعة للقبيلة الفلانية، لكن في الواقع لم يكن في يوم من الأيام لـ"مملكة إسرائيل" سيطرة على منطقة الساحل، هذه المنطقة سميت "عكرون" يعني عاقر، ولم يكن سيطرة على الساحل الفلسطيني الذي يسمونه "شفيلا" والتي كانت تحت سيطرة الفلسطينيين باسمهم الكنعاني "بلستيبم"، أما المنطقة الممتدة من "دور" إلى "الزيب" ومناطق الجليل وطبرية فإن معظمها كانت تابعة لمملكة "أرام دمشق" التي كانت في حروب مع "مملكة الشمال"، في حين كانت منطقة عكا وحيفا حتى "دور" فينيقية بالكامل.
"عرب 48": إذن أنت تدعو لإعادة الاعتبار للتاريخ المدعم بالنصوص التاريخية والاكتشافات الأثرية، وإعادة الاعتبار تلك يجب أن تبدأ من عندنا لأننا المتضررون الأوائل من اعتماد الرواية التوراتية؟
مرقطن: علينا تفكيك ما هو مكتوب في المصادر القديمة والحديثة وإعادة بناء رواية التاريخ وذلك باستخدام ما أسميه بـ"ذاكرة المكان"، إذا كانت هناك مجموعة يهودية قد عاشت في صفد أو طبرية أو القدس ليست لدينا مشكلة، هذه ذاكرة المكان وروايتنا ليست حصرية لأن الشعب الفلسطيني هو خلاصة التجربة الإنسانية البشرية على ارض فلسطين، منذ أقدم العصور وحتى اليوم، ولا يهمنا إذا كانوا من عبدة "البعل" أو من بحر إيجة أو غيرهم فكافة هذه القوميات والاثنيات ذابت في شخصية الشعب الفلسطيني.
أ.د. محمد مرّقْطن هو آثاري ومؤرخ فلسطيني يعيش ويعمل في ألمانيا. وهو باحث مُتخصص في لغات وحضارات الشرق القديم، ويعمل الآن في جامعة "مونستر" بألمانيا. قام بنشر عشرات الدراسات عن حضارات ولغات الشرق القديم. نشر عن أسماء الأماكن الفلسطينية ما بين الاستمرارية التاريخية والطمس الصهيوني وعن لغات فلسطين القديمة.

*المصدر :عرب 48
1