منذ أن هاجرت إخلاص إلى كندا، قبل نحو ربع قرن، حيث تزوجت وسكنت هناك، لم تنقطع عن زيارة الأهل في حيفا مرة في كل عام أو عامين وأحيانا ثلاثة. وتلتقي في كل زيارة، مع أترابها وزميلاتها بالدراسة، اللواتي احتفظن بصداقتها، لأنها كانت دائما مميزة من حيث جمالها الهادئ ووعيها وثقافتها.. ولكن إخلاص ميزت صديقتها ليزا عن باقي الصديقات، فهي موضع أسرارها والبئر التي تصب بها همومها وشكواها. وبادلتها ليزا نفس المودة، فحبهما الأول لم يعرف به سواهما.
استيقظت ليزا على صوت الهاتف في صباح هذا اليوم، تناولت السماعة وهي مستغربة، من يكون المتصل في هذه الساعة المبكرة.. سمعت إخلاص قائلة: هيا يا ليزا انهضي من فراشك واحضري بسرعة، سنحتسي معا فنجان قهوة عندي وسأحدثك عن أمر هام..
قالت ليزا وكأنها في حلم: ما هو هذا الأمر؟! بالأمس كنت عندك ولم تحدثيني بشيء!
فقالت إخلاص: عندما تأتين ستعرفين.. وأقفلت السماعة..
دخلت ليزا إلى الحمام مسرعة، اغتسلت ولم تتبرج كعادتها، ربطت شعرها على شكل كعكة ووضعت على رأسها طوقًا تخفي شعراتها اللاتي لم تنضم إلى كعكة شعرها. لبست فستانًا من النوع الرخيص المبرز لمفاتنها.. وصلت إلى بيت إخلاص، وقبل دخولها استنشقت رائحة القهوة المهيلة فابتلعت ريقها، ودخلت طالبة: أعطني فنجان قهوة قبل أن تنبسي ببنت شفة..
ارتشفت ليزا بعض الرشفات ثم قالت: اخبريني ما هو الأمر الهام؟!.
إخلاص: اسمعي يا ليزا، إنها قضية مبهمة.. لا أعرف من أين أبدأ.. أنا أرى أرواحا وأتواصل معها طوالا الوقت، وباتت مشاهدتها ومحادثتها أمرًا عاديا، لا يرعبني ولا يخيفني البتة..
جفلت ليزا حين سمعت حديث زميلتها وقالت بارتياب: كيف ذلك، كيف تشاهدين الأرواح وتتحدثين إليها؟!
- التقيت بالأرواح لأول مرة قبل عشرين عاما، عندما كان ابني رامز صغيرا في سنواته الأولى، ورامز كان طفلا هادئا ومرتبا ومنظما، قليل الكلام ويقضي ساعات طوال في غرفته، يستمع إلى موسيقاه أو يلعب بألعابه، فجأة لاحظت تغييرًا في تصرفاته، كنت أدخل إلى غرفته فأجد الغرفة مقلوبة رأسا على عقب، وكأن حربًا ضروسا وقعت في غرفته، مع انني لم اسمع أي ضجة تصدر من الغرفة. لم أفهم ما يحدث مع رامز وبدأت تزعجني الفوضى العارمة التي يخلفها وراءه في كل حين، فأبديت له استيائي من هذه الفوضى، وطلبت منه أن يهتم بترتيب الغرفة، فرفض طلبي. وكلما سألته لماذا تثير هذه الفوضى في غرفتك؟ أومأ برأسه مجيبا: لست أنا صاحب الفوضى ولا من يخلط الألعاب ويرميها أرضا..
- إذًا من يقوم بذلك؟
- إنه صديقي مايكل..
- ولماذا مايكل لا ينظف ويرتب الغرفة؟
- إنه لا يرضى بذلك..
سئمت من تصرفات رامز، فقلت له وأنا أرغي وأزبد: أريد من صديقك مايكل أن يذهب إلى بيت أهله ولا أريده أن يلعب أكثر معك وفي غرفتك.. فأجابني: لا أهل له..
- كيف ذلك؟!
- توفيا في حادث طرق وبقي هو وحيدا..
فكرت قليلا وقلت له: لا يهمني أمر صديقك، المهم عندي من يلعب ويرمي الألعاب على أرضية الغرفة، عليه تنظيف ما خلّف وراءه حالا وسريعا..
بعد يومين من هذا الحدث، دخلت غرفته لأضع ملابسه النظيفة في خزانته فصدمت مما رأيت.. كانت جميع ملابسه مبعثرة هنا وهناك على الأرض والألعاب مكسرة وأجزاؤها منتشرة في كل مكان، وحتى الفرشة على سريره ظهرت وكأن أحدهم حاول تقطيعها.
صرخت بصوت عال هز أركان الغرفة، وفتحت باب البيت وناديت رامز وقلت له بصوت عال: لينصرف صديقك الآن من بيتنا لا أريد أن أراه أكثر في هذا البيت..
ومنذئذٍ، باتت الغرفة مرتبة وعاد رامز إلى حياته الطبيعية ثانية..
نظرت ليزا إلى صديقتها مستهجنة، وهي تحاول أن تبحث عن المنطق في حديث صديقتها، فهي لم تعهد منها حديثا غير منطقي طوال حياتها..
فهمت إخلاص شكوك صديقتها ليزا فقالت: اسمعي هذه الحكاية أيضا.. في إحدى الليالي الليلاء، سهرت شلة من الأصدقاء في بيتنا في تورنتو، وبشكل لا إرادي، تناولت جيتاري الكهربائي وعزفت بصوت عال وشعرت بأن الموسيقى تعشش في لذاتي الحسية ورغباتي البدنية.. التهبت من وقع الموسيقى، عزفت بحرقة ولوعة وبدأت أصيح وأولول وأبكي بصوت عال وأنا أغني وأردد: حرام أن يموت، لماذا تركتموه يموت؟ حرام أن يموت!!
استغرب الضيوف نواحي وصراخي فعزوا ذلك إلى أنني ثملت من الخمر، وأنني تذكرت عزيزًا فقدته في يوم ما. شعر زوجي سامي بالحرج من تصرفي، ونظرًا لأنه يحبني بشدة ويتغاضى عن كل ما أقوم به، حتى ولو لم يرق له الأمر، تركني أتصرف على سجيَّتي، ونظر إلى الأصدقاء وكأنه يوافقهم على تفكيرهم بأنني شربت كثيرًا فثملت..
واصلت العزف والقفز على أنغام جيتاري وأخذت أطوف في أرجاء البيت كالفأر العالق في مصيدة..
نظر إلي أصدقائي واعتقدوا أنني واقعة في ورطة لا محالة، ثم انصرفوا الواحد تلو الآخر، ولم يحاول سامي الاقتراب مني ليسكتني، بل بقيت أغني على مزاجي إلى أن رن جرس البيت. فتح سامي الباب، فدخلت شقيقتي المقيمة في تورنتو وهي تلطم على خديها وتصرخ: ويلك يا إخلاص، ابن عمنا عبود مات!!!
ابن عمي عبود، شاب في ريعان شبابه، تعطلت سيارة صديقه الذي كان برفقته، وخرج ليرى العطب الذي أصاب السيارة، فصدمته حافلة وقتلته على الفور..
صرخت أختي وتجمع أفراد العائلة، زعقوا ولطموا وجوههم وقطعوا ملابسهم إلا أنا، لأنني علمت بموته، ووصلني الخبر قبلهم، وعبرت عن حزني بالعزف والغناء.
مطت ليزا شفتيها وارتعبت من أحاديث إخلاص، وقبل أن تنبس ببنت شفة.. سمعت جرس الباب يرن فجفلت على الفور، وقالت إخلاص: لا بد أنها جارتنا أم هاشم، صديقة أمي.. قامت وفتحت لها الباب، ورحب الجميع بها واتخذت مكانها بينهم، إنها في السبعين من عمرها، بدينة، ظاهرة البهجة، ذات وجه محمرٍّ دائم الابتسام، وبعد أن أشعلت النرجيلة لها ولليزا قدمت لهما القهوة.. قالت إخلاص لأم هاشم: جئت في الوقت المناسب، حتى تصادقي على كلامي والإدلاء برأيك يا أم هاشم أمام ليزا الشكاكة..
فقالت أم هاشم: ماذا حدث؟ أي كلام تقصدين؟!
- ليزا لا تصدق ما أرويه لها من قصصي مع الأشباح، أخبريها من فضلك حكايتي مع ابنتك..
قالت أم هاشم بعد أن شبكت ساقيها ساقا فوق أخرى: لا.. أخبريها أنت بالقصة، لأنك تروينها أفضل مني، وأنت صاحبة القصة ولست أنا، مع أن لي ضلعا هاما وشديد الإيلام والإزعاج فيها..
تنحنحت إخلاص نحنحة جافة وقالت: في كل مرة أزور البلاد وأهلي في حيفا، أمضي عندهم شهرين، أنام في الغرفة التي كانت في الماضي بئرا للمياه، ذات جدران سميكة جدا. وما أن أضع نفسي في الفراش وأغمض جفوني، حتى أسمع دبيب أقدام تسير في الغرفة بهدوء تام، فأختبئ خوفا تحت اللحاف وارتجف، وعرفت أن صاحبة الصوت فتاة صغيرة، كانت صاحبة الأقدام تقترب من رأسي وهي تذرع الحجرة جيئة وذهابا، وخفت لأول مرة أن أخبر أحدا بأمر هذه الزائرة الليلية التي أرعبتني، وكنت أسترق النظر إليها من الخلف عندما تبتعد عن سريري. إنها فتاة في الثانية عشرة من عمرها ترتدي ملابس بيضاء وتضع تاجًا على رأسها. وعرفت فيما بعد أنها ابنة جارتنا أم هاشم، التي توفيت قبل ثلاث سنوات.. وفي مرة أخرى أزحت اللحاف عن وجهي وقلت لها برقة وارتياع: ماذا تريدين يا حلوة، إنني أخشى رؤيتك تسيرين في الغرفة، أرجوك أيتها الصغيرة، ابتعدي عني ولا تعودي ثانية.. ومنذئذ لم تعد الفتاة إلى غرفتي...
تجهم وجه أم هاشم وعلقت: ما تقوله إخلاص صحيح مائة بالمائة، فقد أخبرني عدد من الجيران أنهم رأوا ابنتي ترتاد بيوتهم في المساء بملابسها البيضاء، ولكن إخلاص هي الوحيدة التي تحدثت معها ومنعتها من العودة إليها.
أنهت أم هاشم نرجيلتها وتركت الصديقتين معا وعندها قالت ليزا: أعتقد أن كل ما نطقت به أوهام بأوهام!!
عندها، خرجت إخلاص عن هدوئها وقالت بعصبية: ظننت أنك ستفهمينني أنت بالذات أكثر من والدي..
فقالت ليزا: ما شأن والدك بهذا الموضوع؟!
- حدثته بكل ما رويته لك بالأمس، وكانت ردة فعله مشابها لردة فعلك.
صدمت ليزا من جواب إخلاص ورمتها بنظرة تأنيب، فوالد إخلاص توفي قبل عشرين عاما، وتصنعت الهدوء التام وقالت: هيا يا إخلاص، اهدئي، اشربي كأس نبيذ لتهدأ أعصابك ولنستوضح جميع الأمور، بإمكانك أن تشعلي سيجارة أيضا؟
وجهت إخلاص نحوها نظرة تقريع قائلة: أنت تعرفين بأنني لا أشرب النبيذ، بل أتقيأ بمجرد رشفة واحدة منه، وتعلمين أنني أقلعت عن التدخين منذ سنوات عديدة..
فقالت ليزا في هدوء وأناة: ومن الذي شرب نصف هذه الزجاجة الموضوعة على الطاولة ودخن كل هذه السجائر الموجودة في المنفضة؟ أما تركتك بالأمس وحدك في ساعة متأخرة؟
قالت إخلاص بغير لهفة أو إجهاد: يا لك من غبية يا ليزا، قلت لك إنني سهرت مع والدي وحدثته بكل ما حدثتك. وهو الذي شرب هذا النبيذ ودخن كل هذه السجائر.
وهنا سمعت ليزا صوتا من الغرفة الداخلية ينادي: إخلاص أحضري لي حذائي لقد تركته عندك تحت الطاولة..
نظرت ليزا إلى إخلاص وفي عينيها تساؤل عن صاحب الصوت.. فقالت إخلاص: إنه والدي، كما تعرفين، يلقي بأغراضه في كل زاوية من البيت....
**
هذا ما حدثتني به ليزا بالأمس، عن صديقتنا إخلاص وغصة قي حلقها
.. وأنا الآن في طريقي إلى إخلاص، لأستمع إليها بنفسي وأتأكد من لغط هذه الأحاديث.
من تورونتو إلى حيفا!!
بقلم : ميسون أسدي ... 02.11.2013