أحدث الأخبار
السبت 21 كانون أول/ديسمبر 2024
«البوكر العربية»... ومسألة الهوية!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 29.04.2013

شاب أسمر فارع الطول سخي الابتسامة، وشقراء تماثله الطول وكرم التبسم، يقفان على مدخل فندق "روكو فورتي" في العاصمة أبوظبي، قريباً من معرض الكتاب، يتناقشان حول موضوعات الروايات الست الفائزة بالقائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية -المعروفة بـ"البوكر العربية". زكريا وفلور نواتج جميلة لهذه الجائزة. ما الذي يدفع زكريا ابن محلة "الواو" غرب بحر الغزال من أقصى جنوب السودان كي يتعلق بالرواية العربية. وما الذي يورط فلور، الإنجليزية المالطية، في العربية لغة وأدباً كي تتعلم اللهجة الحسانية الموريتانية ثم تتقن بقية اللهجات العربية وتصبح لاحقاً المنسقة الإدارية لأهم جائزة في الرواية العربية. زكريا الذي أدهش فلور بمتابعته لتفاصيل الجائزة وأسماء المتنافسين فيها، والروايات التي كتبوها، يُسمعها رأيه في الروايات. في المساء سوف تُعلن لجنة التحكيم عن الرواية التي ستُمنح الجائزة الأولى، وزكريا يتمنى أن تفوز "ساق البامبو" للروائي الكويتي سعود السنعوسي. قال لي لاحقاً إنه أحب هذه الرواية جداً على رغم أن الروايات الأخريات لا تقل جمالاً، لأنه رأى نفسه فيها واندمج مع بطلها عيسى/ خوزية، الشاب مشطور الهوية بين الفلبين والكويت.
وزكريا، أو مُختصراً "زكي" كما هو مكتوب على صدر زيه الرسمي في مدخل الفندق، تتنازعه وعائلته الصغيرة هويات قاتله. عاش في شمال السودان معظم حياته وهو القادم من جنوبه الذي كان جنوباً ثم انفصل وصار بلداً مستقلاً. نجوى، حبيبته الشمالية التي حلم بالزواج منها ثم تزوجها، تنتمي إلى إحدى أكبر قبائل شمال السودان. قبل الانفصال كان انشطار الهوية يلاحقه بما فيه الكفاية. وبعد الانفصال أصبح أجنبياً ومن "بلد آخر" يقيم في السودان، وكان عليه استخراج جواز سفر وإقامة. ولكن لعنة الهويات تصير عاصفة لا تتوقف وهي الآن تحيط بولديه سامح، ثماني سنوات، وبوداي، أربع سنوات. ولد الاثنان قبل الانفصال وعندهما شهادة ميلاد سودانية وهما الآن في مدارس سودانية. ولكن زكريا لا يعرف أي هوية أو جواز سفر يستخرج لهما، إن كانت شمالية لا يعود بإمكانهما الانتساب إلى الجنوب حيث الأجداد والجذور، وإن كانت جنوبية صاروا أجانب وغرباء بضربة قلم موظف السجل المدني. أحس بأني وأولادي كحال بطل "ساق البامبو" مشتت بين أب كويتي وأم فلبينية والمجتمع أو حتى المجتمعات لا تعترف به.
في المساء كانت أبوظبي تحتشد بمثقفين وكتاب وروائيين في الفندق الذي يعمل فيه زكريا مسؤولاً عن حركة الدخول والخروج وخدمات المواصلات (concierge)، وفيه يلتئم الحفل السنوي للجائزة العالمية، ويأتي الروائيون الستة وناشروهم، ولجنة التحكيم، ومجلس الأمناء، ومترجمون، ومستعربون مهتمون بالأدب العربي. في مسابقة هذا العام تنافست 133 رواية اختصرتها لجنة التحكيم بعد القراءة والتقييم إلى قائمة قصيرة من ستة عناوين ("ساق البامبو" لسعود السنعوسي من الكويت، "مولانا" لإبراهيم عيسى من مصر، "القندس" لمحمد حسن علوان من السعودية، "أنا وهي والأخريات" لجنى فواز الحسن من لبنان، "معالي السيد الوزير" لحسين الواد من تونس، و"يا مريم" لسنان أنطون من العراق).
كانت فقرات الحفل في القاعة الأنيقة تتوالى فيما كان زكريا بقامته الفارعة يسهل حركة الداخلين والخارجين على بوابة الفندق، ويتمنى لـ"ساق البامبو" وهوياتها أن تفوز. كم من هؤلاء الذين يتلقون ابتسامته السخية وفي زيه الفندقي المهندم يعرف أنه ليس أمام "حمّال حقائب" بل مشروع ناقد أدبي أو كاتب يلتهم الكتب التهاماً، ويكتب أحياناً ولكنه يطوي ما يكتب خجلاً وعدم معرفة بطرائق النشر. يحمل بكالوريس أدب إنجليزي إضافة إلى دبلوم عالٍ في الترجمة، وولعه بالترجمة ومعرفته بها يدفعه لتفضيل "ساق البامبو" أيضاً التي تختلط فيها اللغات ويتلاعب الروائي فيها بعناد الكلمات الفلبينية متحدية فصاحة العربية ومترجميها.
في العام الماضي تعرف زكريا على جائزة البوكر ورواياتها إذ أقيم الحفل السنوي في الفندق ذاته، وقرر متابعتها. عالم الرواية والكتب ليس جديداً عليه فهو وكما كانت تقول عنه أمه "عيّان بالكتب"، وتشاكست معه كثيراً بسبب انهماكه فيها. وخلال سني دراسته الجامعية كان قد أنشأ نادياً متواضعاً للكتب في بيته يقوم على إعارة الكتب لزملائه وأصدقائه مقابل مبلغ زهيد. قرأ كثيراً وفي كل شيء، من الأديان إلى الروايات والشعر. علمته الكتب أن يكتب، وصار يكتب ويطوي ما يكتبه. وعندما يقرأ على والدته، ثم زوجته فيما بعد، ما يكتب تقولان له إن في رأسه شياطين. يقرأ عليهما أشياء كتبها منذ سنوات، كأنها حدس في المستقبل البعيد. قبل زواجه من نجوى كتب عنها وكانت بعيدة المنال، حلم بها زوجة وحلم بأن له ابناً منها اسمه سامح... وهذا ما كان بعد سنوات! عندما تصفحت نجوى أوراقه القديمة وفيها يكتب أقداره مسبقاً، رأت نفسها وولدها سامح مسطورة في أحلامه، اندهشت وقالت له ما كانت تقوله أمه "في رأسك شياطين".
عن القائمة القصيرة وعناوينها يقول زكريا إنه أحب الروايات الست بلا استثناء، ولكنه يحب الرواية ذات العنوان الغامض أكثر من غيرها. "ساق البامبو" و"القندس" أثارتاه حيث لا يستطيع القارئ أن يتوقع الموضوع. "مولانا"، و"معالي السيد الوزير"، و"يا مريم"، بالنسبة لزكريا الناقد الآن، روايات جميلة لكنها تفضح موضوعاتها من العنوان الرئيسي. مثلاً، عندما تقرأ اسم إبراهيم عيسى وهو المعارض لحكم "الإخوان المسلمين" والناقد للإسلاميين في مصر مقروناً بعنوان مثل "مولانا" فأنت تعرف مباشرة أن موضوع الرواية هو نقد الإسلاميين. وعندما تقرأ عنواناً مثل "معالي السيد الوزير" تعرف أن الرواية تناقش فساد الحكم وسوء استغلال السلطة، وكذلك الأمر بالنسبة لـ"يا مريم" حيث تدرك أن الرواية تدور حول الطائفية والهويات الدينية. ولكن ماذا عن "أنا وهي والأخريات"؟ زكريا أعجبته هذه الرواية لأنها تتحدث مرة أخرى عن تمزق الهوية وهذه المرة على مستوى العائلة الصغيرة والجزر المعزولة داخل كل بيت. وهي تناقش منظومة الأخلاقيات التي تحتاج إلى ثورة حقيقية. لو حققنا ثورة أخلاقية، كما يقول زكريا، لسقطت أنظمة الفساد من دون الحاجة إلى ثورات عنيفة!
غادرت أبوظبي وفيها صديق جديد رفيع المستوى ثقافة وتهذيباً وطموحاً. عندما كان يرتب لنا على مدخل فندق "روكو فورتي" سيارات تأخذنا إلى المطار ويفتح الباب ويغلقه خلف كل منا، كنا نذوب خجلاً. وعدته بأن نرسل له روايات كثيرة هذا العام حتى يتابع الجائزة من بداياتها. ووعدت نفسي بأن أقول في أول اجتماع لمجلس الأمناء إن النجاح العظيم لجائزة البوكر العربية يأتي من اكتشافها لزكريا واكتشاف زكريا لـ"ساق البامبو" من خلالها.

1