أحدث الأخبار
الأربعاء 16 نيسان/أبريل 2025
عاش المُحرِّر، مات المترجم فماذا عن الكاتب؟!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 10.04.2025

لم أعرف إن كان عليّ أن أصدّق بيل غيتس، مؤسِّس العملاق مايكروسوفت، أم أصدق الذكاء الاصطناعي نفسه، أي لا أعرف إن كنت سأصدق الأب أم الابن!
يقول غيتس إن ثلاث وظائف ستبقى في المستقبل، وستنقرض الأخرى، وحدد هذه الوظائف الثلاث: مطوّرو البرمجيات، متخصصو الطاقة، باحثو علوم الحياة.
أما الابن، الذكاء الاصطناعي، فيبدو متفائلاً، إذ ذكر لي أنه حتى في عام 3000 ستكون هناك 12 وظيفة على الأقل!
بالطبع، في الحالين لا شيء يسر أبداً ما دام كل إنسان بحاجة لوظيفة كي يعيش.
في عالمنا الثالث، والعالم العربي، يمكننا أن نتفاءل فنقول ستبقى 100 وظيفة، بخاصة أن الوظائف التي حددها غيتس ستكون محصورة في عدد قليل من اللامعين في المجالات الثلاثة، وهي مهن لا تنتمي لفكرة الوظيفة بقدر ما تنتمي لفكرة الإبداع.
كل شيء يمكن أن يصدّقه المرء اليوم، ولي تجارب خضتها منذ عامين محوِّلاً وجودي ككاتب إلى حقل تجارب، وسألت الذكاء (بالعربية) عن «الملهاة الفلسطينية»، فقال لي إنها مشروع فني تشكيلي متنقل في الضفة الغربية، يهدف إلى تعليم طلاب المدارس الرسم! وحين طلبت منه نبذة عني، خلطني بعشرين كاتباً عربياً، وكاتبين أوروبيين، ومُصنّع مراكب في الإسكندرية، وبعض العاملين في مهن أخرى لا علاقة لي بها.
هذا العام استعنتُ به على سبيل التجربة أيضاً، أن يكتب لي سيرة ذاتية من 400 كلمة، فمنحني أفضل سيرة ذاتية حصلت عليها! أما «الملهاة» فقد قال واستفاض.
لم أكتف بهذا، فقد طلبت منه أن يكتب لي قصة قصيرة على أسلوب همنغواي. والحقيقة، كانت النتيجة مدهشة. كما طلبت من موقع غوغل للترجمة، أن يترجم روايتي «طفولتي حتى الآن» إلى الإنجليزية، فترجم 500 صفحة في ثوان معدودات. اقتطعت الصفحتين الأولى والثانية من الرواية وأرسلتهما إلى أصدقاء متخصصين في الترجمة أو يكتبون بالإنجليزية، فكانت النتيجة أنهم أحبوا الترجمة كثيراً، وأثنوا على المترجم! بالطبع، أعرف أن هناك أشياء كثيرة يتلعثم أمامها هذا المترجم الفرط صوتي في سرعته، ولكن كل هذه الأمور ستحلُّ بالتأكيد سريعاً.
وما دمنا نتحدث عن الترجمة، فقد أسرت لي صديقة، وهي مترجمة لامعة، أن مهنة الترجمة في طريقها للزوال، ولم أستغرب هذا، لأنني قرأت أن دار نشر إسكندنافية نشرت دفعة واحدة خمس روايات مترجمة بواسطة الذكاء الاصطناعي؛ كل ما في الأمر أن المحرر بات أساس الترجمة، وهكذا عاش المحرّر، مات المترجم.
قبل عامين، في مؤتمر عقدته جائزة غسان كنفاني في رام الله، سمعت الأصدقاء الكتاب الذي قدّموا أوراقاً حول الذكاء الاصطناعي والإبداع يتحدثون بثقة عن استحالة أن يكون الذكاء الاصطناعي كاتباً، وكنت واحداً من الواثقين، لكنني حين ذهبت لزيارة بيت صديقي الكاتب طارق عسراوي بعد ساعات، وجدت صغاره يلعبون، وكانت اللعبة قائمة على بناء حكاية وأحداث، وشخصيات واضحة بالنسبة لهم، 80 شخصية! يختارون (لا أعرف هل أقول ما أو مَن) يريدون ليكون داخل القصة، ويختارون المكان والزمان الذي تدور فيه الأحداث من الصين إلى مصر القديمة إلى نيويورك اليوم، إلى… ويختارون ملابس هذه الشخصيات وأصدقاءها، والحبكة، ويؤسسون عالماً مرئياً، هؤلاء الصغار هم مؤلفوه، وكما نكتب فصلاً اليوم ونكتب فصلاً غداً، يفعلون الأمر نفسه، وقد تتواصل «كتابتهم المرئية هذه» أسابيع حتى تتم…
قبل عامين تضعضع يقيني، أما اليوم فيمكنني القول إنني لا أملك حتى الحد الأدنى من هذا اليقين، فكل شيء يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي في المجال الأدبي والسينمائي، وغيرهما (ما زلت أعتقد أن الرسم بالريشة، مثلاً، شيء آخر) وستبقى قيمة اللوحة في كونها صناعة يدوية كالتطريز والنحت، ويتم إبداعها في المراسم والبيوت وليس في المصانع أو بالبرامج التي لا علاقة بموهبة من أنتجها بها؛ ربما تكون موهبته الوحيدة هي أن لديه ذوقاً فنياً، أو خبرة فنية.
قبل أسبوع، تظاهر نحو مئة مؤلف بريطاني خارج المقر الرئيسي لشركة «ميتا» الأمريكية العملاقة في لندن، متَّهِمين المجموعة بـ «سرقة» أعمالهم لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة به، وهتف المتظاهرون، كما جاء في «القدس العربي»: «ميتا، ميتا، سارقة الكتب!».
الصحافيون وكتاب المقالات في الصحيفة الإيطالية التي أصدرت أول صحيفة، يكتبها ويحررها الذكاء الاصطناعي، ما زالوا فرحين بإنجازهم الذي لو عارضوه أيضاً لن يستطيعوا وقفه، وكذلك المذيعون الذي يتندرون على زملائهم وزميلاتهم الذين أنجزهم الذكاء الاصطناعي، ولكن الأمر كله أشبه ما يكون بضحك كالبكاء.
هذا الأمر ليس جديداً بالطبع، فقد رفع كثير من الكتاب دعاوى على شركات الذكاء الاصطناعي، لأنها تستخدم إبداعاتهم في هذا المجال، بل وأساليبهم في الكتابة، وتظاهر كتاب السيناريوهات وأضربوا لتغوّل هذا الذكاء، وفي المقابل باع ممثلون وممثلات وجوههم لاستخدامها في أفلام بعد موتهم، رأيت اثنين من هذه الأفلام ولم يخفق قلبي لها لأنني طوال الوقت كنت أحسّ أن صنّاعها يخدعونني.
أمامنا عملاق يتعلم بسرعة الضوء وقادر على ابتلاع كل شيء، كل معلومة وكل كتاب وكل نظرية وتجربة علمية، ناجحة أو فاشلة، والوصول إلى نتائج كبرى قبل أن يرفع الواحد منا يده ليتناول كتاباً خلفه من أحد رفوف مكتبته.
في رمضان، تابعت مسلسلاً عربياً، للحقّ، كان مختلفاً في نمط شخصياته التي قدّمها والحبكات التي لا تنتهي في كل حلقة، لكنني طوال الوقت كنت أشم رائحة الذكاء الاصطناعي.
وبعـــد:
كل شيء ممكن الآن، ويتقدم بسرعة، بحيث تقوم بتنزيل رواية في برنامج وتخرج مترجمة باللغة التي تريد، أو يخرج لك سيناريو من ساعة أو ساعتين أو مسلسلاً محدوداً أو بلا حدود، في لحظات.
هكذا يمكن القول إننا سنصل إلى نتيجة في هذا العام أو العام القادم على الأكثر تقول: إننا لن نعود قادرين على أن نثق بأي رواية كتبت بعد عام 2025 مثلاً، أو قصة أو قصيدة أو سيناريو أو…
أما الرومانسية المفرطة فهي اعتقادنا أن الذكاء الاصطناعي، مبدعًا، لن يستطيع أن يجعلنا نبكي ونشهق أمام لغته وأحداثه، بل ويقدم لنا أساليب فنية لم نرها من قبل.

1