جاء في القواميس أن الوَطَن هو: مكانُ إِقامةِ الإِنسان وَمقَرُّه، وإليه انتماؤه، وُلد به أَو لم يولد.
أما المواطنة فلا تُذكِّر بشيء مثلما تُذكِّر بكل تلك الكلمات الطيبة، مثل المصاحبة، المساكنة، المؤالفة، المعايشة، المؤازرة، المعانقة، وغيرها الكثير.
وحين نقول المواطنة فإننا نعني بالضرورة أن هناك وطناً، تلك الكلمة الجوهر التي تتفتح فيها كل معاني الأمان والكرامة والحرية والاحتضان، والرعاية، والمشاركة، والعدالة وغيرها من الأركان الأساسية التي تجعل من هذا الوطن وطناً حين تحضر، أو يجعل منه غيابها شبه وطن، أو منفى.
في كثير من بلدان العالم الثالث، والأول بأشباهه، وعالمنا العربي، تبدو كلمة وطن غامضة دائماً مثل ثقب أسود، ينتظر البشر اللحظة التي سيبتلعهم فيها، كأنهم المخزون الاستراتيجي لمذابح مقبلة، أو مُعاشة بالتقسيط، أو مخزون للمحو!
لا تُمحى الأوطان بالاحتلال وأشد أنواع الأسلحة فتكاً فحسب، بل تُمحى أحياناً على سنوات، كما تفعله عوامل التعرية وهي تلتهم بصمت السهول الخصبة والجبال، والصخور الرّاسخة أيضاً.
يُمحى البشر لدينا هنا، عاماً بعد عام، بل يوماً بعد يوم، تُمحى المواطنة لتكون القطعنة بديلاً لها، يُمحى الرغيف والكتاب المدرسي، ويُمحى الأمان، فتمحى حرية التعبير، ويُمحى العقل، ويُمحى الحس الجمعي، ويُمحى الفرد أيضاً، لكي يكون الوجود الأكثر اكتمالاً هو وجود هراوة السلطة، ولا يبقى سوى التذلل لها كي لا تترك القطيع وحيداً غير قادر على تدبير أبسط شؤون حياته، فهي التي تطفئ الضوء أو تهدد بإطفائه، وهي التي تحدد منسوب العتمة والتعتيم بما يتيح للفرد، ولا أقول للإنسان، ألا يرى غير شروط بقائه.
أوطان لا تعرف ما الذي عليك أن تفعله لتكون مواطناً فيها، لا تعرف إن كان عليك أن تولد فيها لتكون مواطناً، أو يولد جدك وجد جدك وجد جد جدك، أم هل يكفي أن تعيش فيها عمرك كله محاولاً ما استطعت أن تكون محبًّا لهذا الوطن، معطاء، صادقاً، حريصاً على صورته، مدافعاً عنه إن سُمح لك أن تدافع عنه، لأن القائمين عليه لا يريدونه أبداً أن يكون حرّاً.
الحرية خطرة، فإذا ما امتلك وطنك حريته ستكون حرًّا، وأنت غير مسموح لك بذلك. بل لا يمكن أن يسمح لك بأن تحب وطنك، لا وأنت تراه يُسلب ولا وأنت تراه يحاول أن يبتسم، أو وأنت تحاول رسم صورة جميلة له في حزنك وحزنه، فوقوعك في حب الوطن تراه السلطة دائماً خطيئة لا تغتفر.
فاصل:
في رواية “شرفة رجل الثلج” التي صدرت قبل الربيع العربي بعام، جاء:
“كان الخوف هو الذي يتحكَّم به، وبكلِّ الأيتام الذين مثله، من له أصل وفصل ومن ليس له، وكأننا تُرِكْنا لنُخيفَ أنفسنا بأنفسنا ونستدعي أنفسَنا إلى غرف التّحقيق الخاصة التي بنيناها بأنفسنا لنحقِّق مع أنفسنا بأنفسنا، وتذكرتَ تلك الجملة التي كان قالها لكَ مدير مكتب الإعلانات حين أوحيتَ له بأن ما يحدث معك يحدث لأنك لست أكثر من يتيم بلا أصل وبلا فصل كما قال المحقق، يومها فتح شباك مكتبه وجذبك بقوة إلى حيث يقف وأشار إلى الناس فوق ذلك الرصيف المتهالك وقال: كل هؤلاء مثلك، لقد تمّ تحويلهم يومًا بعد يوم إلى نزلاء فندق، عليهم أن يدْفعوا ما عليهم بصمت، ويعيشوا بصمت، ويموتوا بصمت دون أن يطالبوا بأي شيء، وحين لا يكون باستطاعتهم دفع أجرة الغرفة التي هم فيها، فإن عليهم المغادرة إلى جهنم بصمت، هل فهمت؟ هذه أوطان أشبه بالفنادق، لن يسمحوا لك أن تحبها فعلاً؛ الشيء الوحيد المسموح به هنا، أن تكون قوياً وتدّعي، مثلهم، حبَّها لتلتهمها أكثر فأكثر. ثم استدار وقال بأسى: هذه أوطان لثلاثة: ابن غني وابن قبيلة وابن نظام. هل فهمت؟”.
وبعــــد:
متى يمكن أن يقول المواطن إنه مواطن، يحب وطنه، دون أن يشكُّوا في وطنيته، مع أن كل أوطاننا مريضة اليوم وتستحق الحب، فكثير منا لم ينسوا بعد تلك الأعرابية التي سئلت: من أحب أولادك إليكِ، فقالت: “الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يشفى، والغائب حتى يعود”. وما هو محزن أن أوطننا لم تكبر ولم تشفَ واختُطِفَتْ ولم تعُد بعد.
قاتلٌ هذا “التَّفريز” الذي جمَّد كل ما في الإنسان من طاقات ومواهب وإنسانية وقدرة على العمل وقدرة على الحلم، وقدرة على أن يقول إنه حرٌّ، أو حتى أن يقول إن للآخرين خارج وطنه الحقّ في الحرية، والحق في الحياة، هو المحروم من الحرية والمحروم من الحياة، والذي كان قادراً ذات يوم على التفوه بكثير من الكلمات الشجاعة خلال فترات الاستعمار المباشر، وما بعدها خلال فترة الأحكام العرفية، التي لا نهاية لها في أكثر من بلد، ولكنه لم يعد في فترات (التحولات الديمقراطية) قادراً على أن يتفوه بأكثر من حروف مبعثرة أو كلمات متقاطعة يَحرِق معناها المُضْمر قلبه، كلمات ممنوعة من الوصول إلى طرف لسانه.
فاصل:
ديمقــراطية عربيـة؟!
قبلها: حصَّتـُكَ من الهـواء تكفي لأن تعيش
بعدها: حصَّتُكَ من الهـواء تكفي لأن تصمت
وبعــد:
في هذا المشهد الممتدّ من المواطنة، والوطن إلى العالم العربي والعروبة، والعالم الإسلامي وإسلامه، ثمة شيء مُربك يطحن الروح وأنت تتأمل ملياري إنسان محشورين في هذه المُبَرِّدات الكبرى المنتشرة في عشرات البلدان، الأقل من وطن والأكبر من منفى، غير قادرين على فتح أفواههم إلا للتثاؤب والتقاط ما يمنحونهم من لُقَيمات المِنح، لا رزقهم الذي منحته لهم الحياة.
محزن أن يكون اسم فلسطين مُكهْرِباً لأعصاب كل هذه الأنظمة إلى ذلك الحدّ الذي لا تسمح فيه بتضميد جراح طفل حتى بالدعاء على منابر المساجد. أما خارج هذه المساجد وحول تلك الساحات، فثمة مصفحات قوات مكافحة الشغب حاضرة لسحق الهتاف والدمعة وكل إحساس قد يتفتح في لحظة كرامة أو ألم أو طعنة في الضمير، صرخة ضد كل هذا الموت المُطبق على فلسطين إنساناً وأرضاً وشعباً وتاريخاً.
أي هول هذا الذي ترزح تحت بساطيره شعوب لا يسمح لها بالانتصار لفلسطين حتى بهتاف أو دعاء، وأيّ رعب ذلك الذي يعتصر قلب أنظمة العروبة والإسلام التي لا تخشى شيئاً مثل خشيتها انتصار فلسطين.
وبعد أيضًا:
لكل مواطنة سقفها في عالمنا العربي والإسلامي
بعض السقوف، يتيح لك أن تسير على أربع
بعضها، أن تسير وأنت محنيّ الظهر
وأعـلاها لا يتيح لك أن تسير
إلّا وأنت محنيَّ الرأس.
أوطان مريضة ومواطن في حالة الـ «إنْ عاش»!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 05.12.2024