أحدث الأخبار
الثلاثاء 03 كانون أول/ديسمبر 2024
غزة… ومستقبل الكتابة الفلسطينية!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 29.02.2024

حضرت غزة في الشِّعر الفلسطيني والشِّعر العربي بصورة يمكن القول، بقليل من المجازفة، فاقت القدس وتجاوزتها، بما يعنيه ذلك من أن حضورها تجاوز بقوته واتساعه حضور أيّ مدينة فلسطينية أخرى، بحيث كُتبت فيها قصائد عربية بأقلام أبرز الشعراء العرب، ولعل ذلك عائد بالدرجة الأولى لما تمثله غزة في مسار النضال الفلسطيني والثقافة الفلسطينية، كما لو أن الشِّعر لا بدّ له من أن يتعمّد بها كي يكتمل وجوده.
وعلى صعيد غزة نفسها، فقد أنجبت عدداً من أبرز الشعراء والروائيين الذين ساهموا في نهوض الأدب الفلسطيني، ومنْحه مذاقات جديدة، مهّدت بقوة لظهور حركة أدبية متجدِّدة، واصل رموزها طريق الأوائل، أو شقّوا طرقهم الخاصة، متمرّدين مجدِّدين ومعززين للمسار.
حضرت غزة منذ البدايات في أسماء لامعة في الشعر والنثر مثل: هارون هاشم رشيد، ومعين بسيسو، وغريب عسقلاني، وزكي العيلة، وغيرهم، كما عايشها كتاب بارزون وعايشتهم، ولعل من أبرزهم أحمد دحبور.
لكن كتابة غزة ظُلِمتْ كثيراً؛ فالعزلة، داخليّاً وخارجياً، التي فرضتْ على قطاعها لم تكن وليدة السنوات العشرين الماضية وحسب. ولعل الانفصال الجغرافي المفروض عليها، غرباً وشرقاً وشمالاً بالاحتلال الصهيوني، وجنوباً بامتدادات صحراء سيناء، وحرمانها منذ النكبة أن تكون متواصلة مع شقّها الفلسطيني الآخر، عزز هذه العزلة إلى حدٍّ كبير.
هكذا عاشت الكتابة فيها أكثر من حصار، ما ضيّق على أصوات مبدعيها في المجالات كلها، بحيث لم تأخذ هذه الأصوات مداها الذي تستحقه تجاربها. وضاعف ذلك أن الصحف والمجلات التي صدرت هناك، وحملت نصوص كاتباتها وكتّابها كانت محاصرة أيضاً، كما أن النشر نشأ محاصراً بانعدام السبب الأول الذي وجِد من أجله؛ ونعني هنا التّوزيع.
ومن الأشياء التي حُرمت منها غزة لسنوات طِوال؛ وصول الكتب العربية للقراء فيها. ولا شك أن ذلك الحصار الثقافي ترك أثراً سلبياً على حركتها الأدبية بشكل خاص، تلك الحركة التي جاهدت بقوة لشقّ طريقها عبر كل هذه الجدران بكل ما لديها من قوة لتصل صرختها إلى الخارج.
لكن غزة في مجملها، لم تتوقف يوماً عن قرع جدران خزّانها، بل قرع جدران فلسطين والعالم العربي والضمير الإنساني في كل مكان، وقرع كل جدار حاول الانقضاض على القضية الفلسطينية، وصولاً إلى اللحظة التي تمكنت فيه من هدم هذه الجدران وتجاوزها وصولاً إلى السابع من أكتوبر.
في السنوات الأخيرة، استطاع بعض كتّاب غزة الوصول إلى العالم العربي، بل والوصول إلى بقاع كثيرة في هذا العالم، وقد اختار بعضهم الكتابة بالإنجليزية، واستقبلت كتاباتهم بترحيب كبير، حاصدة بعض أهم الجوائز، وهذا ما يؤكد أن غزة لم تتوقف يوماً عن الإبداع رغم كل الحصارات المفروضة عليها، ورغم كل الحروب التي شُنَّت لاقتلاع أهلها من المكان، بل واقتلاعها نفسها وإلقائها في البحر كما صرح أكثر من صهيوني، وصولاً إلى الدعوة للتخلص منها باستخدام قنبلة نووية.
ولعل ما يستحق الكثير من الكتابة عنه تلك اليوميات التي صدرت عن غزة أثناء الحروب التي شنّت عليها؛ من «يوميات غزة: مقاومة دائمة» لمعين بسيسو، إلى يوميات عاطف أبو سيف عن الحرب الدائرة اليوم، مروراً بما كتبه باسم النبريص وخالد جمعة وسما حسن، وناهض زقوت، والكاتب الشهيد سليم نفار، والكاتب الشهيد رفعت العرعير، وغيرهم، وشهادات 25 كاتبة وكاتباً ضمّها كتاب «الكتابة خلف الخطوط»، وما تكتبه كاتبات وكتاب غزة في مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث يمكننا القول إن كل كاتب وكاتبة فيها ساهموا في كتابة «كتاب غزة» سواء بيوميّاتهم أو بأعمالهم الإبداعية.
كان وجود غزة وجوداً مُلحّاً بضرورته دائماً، فبغيرها لا يمكن لفلسطين أن تكون كاملة، لا في عمقها الحضاري ولا في عمقها الثقافي ولا في عمقها النضالي، بل إنها كانت على الدوام الرافعة الأكبر لهذا النضال الذي تعمق معناه وجدواه منذ لعنة اتفاقية أوسلو.
لقد بقيت دائماً واحداً من أبرز الأدلة على أن فلسطين هنا، حاضرة، لا تغيب، وقد دفعت الثمن الأكبر لا بنضالها وحسب، بل بكماشة العزلة المطبقة عليها في يومها العادي، الذي لم يكن عادياً، وفي أيامها الأخرى تحت القصف. لكن الأهم أن غزة كانت فوق الاحتلال دائماً، إلى أن أوصلت كل كائن صهيوني، الآن، إلى أن يحسّ في كل لحظة بملمس أقدامها لا فوق رقبته وحسب، بل فوق رقبة مستقبله. لأن غزة باتت هي اليوم التالي لهذا الكيان العنصري الطليق في ارتكابه للجرائم والطليق في إصراره على أن يكون فوق العالم، وفوق إنسانية البشر.
بدأنا الحديث عن إبداعات غزة، قبل السابع من أكتوبر، ولكن غزة اليوم ليست غزة أمس، وما عاشته ولم تزل تعيشه، وبات يفترش مساحة كبيرة في ضمائر وقلوب وعقول البشر في العالم، هو مفصل كبير يجعلنا على يقين بأن الأدب الفلسطيني الجديد سيكون ابن غزة، فما عاشه بشرها يعيشه كتّابها وفنانوها الذين استشهد ما يقرب من خمسين مبدعاً منهم خلال الحرب التي تُشن عليها الآن. في هذا الحيز الذي حُشر فيه البشر، بكثافتهم وتقاطع حكاياتهم ومآسيهم، تولد تجربة لا يمكن مقارنتها بأي تجربة عاشتها فلسطين من قبل، ولعل تلك الطاقات والمواهب الكبيرة التي ظهرت في السنوات الأخيرة، هي المؤهلة الآن لأن تقدم أدباً وفنّاً نوعيين سيشكلان ظاهرة بارزة في مسار الكتابة الفلسطينية والفن الفلسطيني لزمن طويل، ولعل أطفال اليوم؛ الشهود الذين يعيشون أدق التفاصيل التي تعيشها غزة الآن، هم كاتبات وكتّاب وفنانات وفنانو الغد بما رأوه واحترقوا به بأكثر الأعين المشرعة على الرعب والموت والدمار اتّساعاً.
وبعد:غزة التي استطاعت أن تُعيد تعريف الفلسطيني، وتعيد تأكيد جذريّة نضاله، وتغسله من كل ما التصق به من تشوهات الدعاية المأجورة التي كم سعت لتشويه صورته، غزة هذه وما تعيشه منذ 146 يوماً، باتت وهج الصورة الأخرى للفلسطيني وكل من وقف ويقف معه، وعتبة ليل طويل لهذا الكيان، ظُلْمَتُه هي مطلع تيهه الأكبر!

1