أحدث الأخبار
الأربعاء 11 كانون أول/ديسمبر 2024
الفنانة الفلسطينية رائدة طه: أنا ابنة قضيتي والسيرة الذاتية لا مفر منها!!
بقلم :  الديار ... 10.02.2024

**حاورها: الحسام محيي الدين
يغيب المسرح الفلسطيني قسراً عن الساحة الثقافية العربية خارج فلسطين، إلا في حدود ما تسمح به الإمكانات المادية والتقنية لصانعيه، من أجل تقديم بعض العروض التي تتناول في معظمها الوطن الأمّ. ويمكن اعتبار الفنانة المسرحية رائدة طه مثالاً لهذه الحالة، فالقضية الفلسطينية هي قضيتها الوحيدة على امتداد ما قدمته من مسرح حتى اليوم في غير بلد عربي وأجنبي.
رائدة طه كاتبة ومُمثّلة ومُخرجة مسرحية فلسطينية، مواليد القدس. عملت ملحقة إعلامية للرئيس الراحل ياسر عرفات من عام 2000 حتى 2008، ثم رئيسة الهيئة الإدارية في «مركز خليل السكاكيني» في رام الله، عضو «مؤسسة غسان كنفاني الثقافية» في لبنان. أهم مسرحياتها «عائد إلى حيفا «، «صخور البتراء» «أميال غالية» «ألاقي زيك فين يا علي» «36 شارع عباس/حيفا» و»شجرة التين». وفي الحوار التالي نقترب أكثر من رؤيتها وعالمها المسرحي..
□ أنت ابنة الإعلام والصحافة، فلماذا اخترتِ المسرح؟
■ وأنا أيضاً ابنة القضية الفلسطينية وابنة شهيد. ولدت في القدس وعشت في بيروت ودرستُ في أمريكا، وأنا أتجول في العالم دائما، اخترتُ المسرح لأنه لغتي الوحيدة في التعبير عن نفسي وعن قضيتي وقضايا شعبي، ولأنه غير موارب أي «دُغري» ولأنني في حياتي الخاصة والعامة لا أجيد لغة الدبلوماسية أو فلنقل المراوغة. قضيتي هي التي قدّمتني ودفَعتني كي أمارس المسرح ولست أنا التي قدّمتها، ومسرحيتي «عائد إلى حيفا» (2011) وضعتني رسمياً على المسرح بتوقيع لينا أبيض، ثم كرّت السبحة إلى عروض أخرى انطلاقاً من بيروت إلى عواصم عربية وعالمية كثيرة، حتى قررت بعد ذلك الكتابة لنفسي، مستلهمة قصص وتجارب الشعب الفلسطيني الكثيرة جدا منذ 75 عاما، والتي يلزمنا ربما مئة عام حتى نعرضها ونقصها.
□ في أعمالك الأخيرة.. «ألاقي زيّك فين يا علي» «غزال عكّا» و»شجرة التين».. تتناولين أحوال وأخبار واقعية من فلسطين، لماذا السيرذاتي؟
■ كنت أحلم دائماً بكتابة قصتي الخاصة قبل أن أمثّل على الخشبة، فكانت مسرحية «ألاقي زيّك فين يا علي» التي بدأتها في رام الله وأكملتها في بيروت بعدما استشهد زوجي، ثم تطورت أعمالي فكتبت «36 شارع عباس/حيفا» وبعدها «شجرة التين» وهي سِيَر ذاتية عن حيفا ويافا عام 1948 وعن سجن عمتي من قبل الاحتلال عام 1968 وتاريخ أهلي من جهة أمي الذين كانوا يعيشون في حارة «زاوية الأفغان» الملاصقة للحرم الشريف. مروياتي كلها عائلية تتكلم عن شعب مع أرض بمواجهة شعب بلا أرض، وصحيح أنها سيرذاتية لكنها تعكس أيضاً حكايات الآخرين الذين نشبههم من معظم أفراد شعبنا الذي يتشارك ويتماثل في التجارب إلى حدّ كبير. فـ»غزال عكا» التي هي أيضاً فصول من حياة صديقي الشهيد غسان كنفاني، ووجه من وجوه مأساة الفلسطيني، الذي طُرد وتهجر وتعذب وأُقصي بشكل وحشي من أرضه، فمن الطبيعي أن تتمحور تجربتي المسرحية حوله، لكن ذلك لم يكن بالأمر الهيّن أبدا، فقد طُردتُ من القدس في الثالثة من عمري وهُجّرت، ثم عدتُ بعد اتفاقية أوسلو، لكننا صرنا في مواجهة وجودية وصراع فكري ثقافي من أجل إعادة بناء الذكريات، وهذه مهمة صعبة جداً لأن (إسرائيل) لم تحتل الأرض وتهدم البيوت وتأسر وتقتل الشهداء فحسب، بل احتلّت ذاكرتنا أيضا، ذلك أننا عدنا وليس لنا أصدقاء ورفاق درب وأقارب وحارات وبيوت وزواريب ومناسبات وأعياد وشعائر، إلخ، هذه كلها لم نعرفها صغاراً ولم نكبر معها، لأننا كنا لاجئين في بيروت، لذلك عند عودتنا وجدت، كغيري، صعوبةً كبيرة في إعادة تكوين ذاكرتي وبنائها، حتى أحسست بالغربة في القدس عندما دخلتها مجدداً عام 1994. هذا الصراع، هذا الشعور صعب للّذي فقد وطنه، وهذا ما قلته في مسرحياتي، وإذن فإن السيرة الذاتية مفروضة عليّ ولا مفر منها.
□ وهل تؤرّقك مسألة اللجوء؟ وهل هو هاجس أو معاناة تفرض نفسها على مسرحك؟
■ هاجسي هو قضية شعبي، كيف أنّه مع هذا الإرث والتاريخ قد تعرض لكل هذه المجازر والفظائع منذ عام 1948، لكن نحن ليس لنا أمل إلا الأمل وهو الذي يقودنا أو كما يقول صديقي ومعلمي وأستاذي محمود درويش «نحن نربّي الأمل». الهاجس يكمن في تكثيف الجهود والتراكمية على جميع الجبهات، في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة كأدوات للمقاومة، أقواها المسرح والكلمة. غسان كنفاني قُتل من أجل الكلمة ومن أجل ما قاله وكتبه، الكلمة في المسرح تطرح قضيتنا للتفكير ولتلميع الذاكرة ومحاربة غسل الدماغ التي تجري في العالم لتشويهها. نحن نعيش حرب مرويات وهاجسي هو وقف نزيف الدماء، وأن أموت وأنا أتحدث بحقّ عن مرويتي الإنسانية أولاً وأخيرا، ومن أمنياتي العودة إلى بلدي فلسطين وتأسيس مسرحي الخاص بي.
□ منذ سنوات وحتى وقت قريب لم تعد فلسطين موضوعاً رئيسياً في العروض المسرحية العربية، لماذا برأيك؟
ـ ربما لم تعد ظاهرة على الطاولة في هذا العالم المجنون، وهذا لا يعني انتفاء معاناتنا حتى لو حصل تهميش، لكن منذ عام 1948 دائما لدينا انتفاضات وحراك شعبي كأننا نقول نحن هنا نريد أرضنا وحقوقنا وحياتنا الطبيعية. لطالما كانت فلسطين تواجه العالم بحضورها، وهي على مائدة كل عربي وفي قلب كل مسرحي عربي بشكل أو بآخر، تصريحاً أو تلميحاً وإن لم تُذكَر بالاسم أحيانا، ونحن ولو كنا مُشتّتين في العالم، لكننا والشعوب العربية لدينا بوصلة واحدة هي فلسطين.
□ ألا ترين أننا نعيش مأزقاً حضارياً في تخلي الإنسان عن مبادئه التي لطالما نادى بها؟ أين تجدين وظيفة المسرح في هذا السياق؟
■ المسرح أداة للتذكير وللمبادئ، ولطالما كان له تأثير عبر التاريخ، ونحن عرفنا المسرح منتصف القرن التاسع عشر، ومُذّاك بدأت معه عملية طرح الإشكاليات والقضايا، لأنه كانت هناك دائماً محاولات لتذويب هوية الإنسان العربي وتجريده من ثقافته الإسلامية والحضارية، وتذويب إرثه الحضاري العظيم وتجريده من كل شيء وجعله إنسانا فقيرا وجاهلا ومحتاجا وخائفا، وهذا ما أكدته في مسرحيتي «ألاقي زيّك فين يا علي» التي هي تلخيص معاناة وطنية في هذا السياق، وقت استشهاد والدي. المسرح له سرّ وسحر خاص، كأداة تعبيرية تخترق الحواجز والأيديولوجيات وتعطي رسائل في الحياة، التي قد تكون اقتصادية أو بيئية أو اجتماعية، وليس سياسية بالضرورة. فهو أداة ناجحة لطرح الأسئلة، وحتى الذكاء الاصطناعي لا يؤثر عليه، رغم خطورته في تشكيل وتوجيه أفكار ورؤى نصية أو تنظيرية، أو ما أسميه النقد التكنولوجي. المسرح هو الطريق الصعبة لا السهلة، ومن ليس له مسرح تكون ثقافته ناقصة.
□ دول كثيرة احتضنت عروضك شرقاً وغربا، أليس التمثيل مسؤولية خطيرة مع اختلاف الوسيط المكاني، وتنوع ثقافة المتفرج ومزاجيته بين بلد وآخر؟
■ جمال المسرح في تنوعه الثقافي والاجتماعي، أنا لم أتكلم اليابانية أو الروسية أو الألمانية ولا غيرها من اللغات في تلك البلاد التي اشتغلت فيها مسرحا، لكنني كنت أنبهر من مسارحهم، لأنهم كانوا يقدّمون مسرحاً بلُغة عالمية أفهمها أنا وأنت وأي مسرحي عربي، وقضايا تمسّ الإنسان مهما كانت لغته وثقافته كما في لغة شارلي شابلن مثلا الذي يصل للمتلقي بسهولة. تنوُّع وتعدُّد الثقافات تجربة غنية تراكمية ثقافية، واختلاف الحضارات أمر إيجابيّ جداً فهو تجربة تغني الروح والعقل.
□ كيف تجمعين بين الأداء كفن والفكرة كفعل احتجاجي؟
■ لأنني فلسطينية، أفكاري وطرحي لمسرحي هو احتجاجي دائماً بشكل مباشر وغير مباشر. في تونس قابلت صديقي توفيق الجبالي وزينب فرحات زوجته، تعلمت منه الكثير. وسألني مرّة: كيف فلسطين؟ فأجبته: أخاف أن أموت وقضيتنا لم تحل، فقال لي: وأنا خائف من أن أموت من غير قضية! أنا أعطي المسرح حقه من الأداء الفني ولا أبخل عليه لا في المعالجة ولا في السرد ولا في الأفكار ولا في أي شيء من مكوناته الدرامية، أتعامل مع مخرجين محترفين جادّين وملتزمين ومتفاعلين مع أفكاري. أكتب وأمثّل ولا أنتقص من أهمية المسرح لحساب أيّ شيء آخر. ربما من حظي أن خطابي المسرحي قوي جدا، لأنني صاحبة قضية حكيمة هي أكبر مني بكثير، تعطيني كلّ شيء في المسرح وعلى الخشبة.
□ وعن تصوّركِ لحضور المرأة في المسرح الفلسطيني اليوم؟
■ وجود المرأة في المسرح ليس تفصيلا. هو من أهم الأشياء، والمسألة ليست فقط ألفاظ وتعريفات وعناوين كبيرة تؤيد النساء وحقوقهن. أنتيغون من أهمّ مَن رسّخ ظهور المرأة وحضورها، وإعطائها حقها وقوتها، ولذلك أصبحت رمزاً ثقافياً ومسرحياً عالميا، لأنها قدمت حياتها دفاعاً عن حقّ الشعب في مواجهة الطاغية. إذن، سرّ المرأة صاحبة القضية هو أخذها استقلاليتها على عاتقها في مواجهة ما جبرت عليه، وفرض عليها من غياب أو فقدان زوجها في الشهادة أو الفقد أو الأسر أو المعركة، وهذا لا يعني أن بقية النساء ليس لهنّ معاناة في التشريعات والحقوق، لكنها تظل هي المرأة التي تعطي، تلد الشهيد والرئيس والملك والأمير والمجرم والطيب والشرير وكل الناس. إنها أساس القصة، ولا يمكن تخيُّل مسرح بغير امرأة، بل هي الأهم في المسرح كما أراها، وإن كان حضورها مقلا اليوم في المشهد الفلسطيني بسبب الظروف المعروفة داخل وخارج فلسطين. أمي، عماتي، خالاتي، ونساء العائلة والجيران، كلهنّ روَين عن تاريخنا وبشكل صادق وعفوي ومبدع، وهناك الكثير من قصص النساء في الشرق، لكن هناك ضعف في استحضار وإخراج وتقديم هذه القصص على المسرح.

1