أحدث الأخبار
الثلاثاء 03 كانون أول/ديسمبر 2024
المسافة بين تلفيق الأبطال وميلاد الرّموز!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 02.02.2023

لا شيء بين الشهيد خيري علقم وبنجامين مارتن بطل فيلم «الوطني» الذي قام ببطولته ميل جيبسون، غير منطق العدالة في الأول وغطرسة القوة في الثاني، هذا على المستوى العام. لذا، فإن الأول في منظور هذه الغطرسة إرهابي، أما الثاني فبطل، وهكذا لا يسمح للأول أن يكون شخصية كبيرة على الشاشة، في وقت تحتضن شاشات العالم، الثاني.
أما على المستوى الخاص، فينطلق خيري من حكاية ممتدة تغطي أحداثها خمسة وسبعين عاماً وأكثر، متمثلة في وطن محتل، وذاكرة عامة جريحة محتشدة بآلاف الشهداء من الأصدقاء والجيران وأبناء الوطن الذين قتِلوا بدماء باردة، كما ينطلق من ذاكرة خاصة متمثلة في قيام مستوطن صهيوني دموي بقتل جدِّه الذي يحمل خيري اسمَه، في حين ينطلق بنجامين من أرض اغتصبها وأباد أهلها وانتقامٍ لابنه القتيل (على يد عقيد بريطاني). بنجامين الذي كان، سابقاً، نجم مذبحة كبرى ارتُكِبت في قلعة «ويلدرنيس» ضدّ التحالف الفرانكو- هندي (الهنود الحمر)، المذبحة التي لم يكن قد توقّف فيها عند حدود القتل، بل قام باقتلاع الأعين والأصابع والآذان والألسن وملأ بها سلالًا كثيرة وأرسلها إلى الهنود الحمر الذين اندفعوا فورًا من هول الفزع ليفكّوا التّحالف مع الفرانكفونيين. لكن سينما الغطرسة والقوة العاتية تتوج بنجامين بطلاً في طريقه لانتقامه، بل وتمنحه شرف إنقاذ (الأمة الأمريكية) وجيشها الذي انهار بأكمله.
ليس بنجامين مارتن سوى نموذج آخر للسّفاحين هنا، في هذا الكيان الصهيوني البغيض، وإن بدا مُغلَّفًا بالعلاقة الطيبة مع أبنائه، حقله (المغتصب من السكان الأصليين)، وسعيه الدائم لصناعة كرسيّ هزّاز يسترخي عليه، ويفشل، لاستحالة ذلك، مثلما يفشل حتى الآن الكيان الصهيوني في العثور على مخدة يضع عليها رأسه بهدوء لينام مطمئنًا، ما دام مئات الآلاف من الشهداء والجرحى الفلسطينيين والأسرى تحت تلك المخدة، وشعب بأكمله ثائر فوق رأسه، هذا الكيان غير المدرك أبداً لتلك النتيجة التي توصل إليها بنجامين، بسبب اقترافه تلك المذبحة، حين يقول: لطالما كنت أحسّ بأن آثامي ستعود وتواجهني، وأن ذلك سيفوق طاقتي.
آثام المجرمين في فلسطين لا علاقة لها بالضمير وحده، استيقظ أو لم يستيقظ، بل تكمن في قوة الضحايا، أو بتعبير آخر، لأن هذا العدو قد يستطيع أن يقتل البشر، لكنه لن يستطيع أن يدفن ظلالهم معهم.
يستطيع القاتل، في حاضنة الحماية المُعدّة جيداً له، أن يكذب على العالم كله، مستظلًّا بحماة كذبته، ومانحيه أسلحة القتل ومباركي جرائمه، المستعدين للدفاع عن كذبته بكذبة أكبر، لكنه لا يستطيع أن يكذب على ضحيته.
على الشاشات، ما كبر منها وما صغر، تتغوّل الكذبة أكثر وتصدِّق نفسها لفرط ما يصدقها آباؤها ومخترعوها؛ ففي أفلام هوليوود من النادر أن ترى فكرتين متحاربتين بمعزل عن الشرّ المطلق والخير المطلق، أو بعيدًا عن الثأر الفردي ببعده الشخصي، وتبرز أفلام الكامبودي المؤسسة لأسطورة أمريكا قائمة على هاتين الفكرتين إلى حدّ بعيد، وهكذا يكون الوطنيّ عمومًا، بطلًا محاربًا لأنهم قتلوا زوجته أو اغتصبوها، أو قتلوا عائلته أمام ناظريه، أو قتلوا أبناءه، وكذلك الأمر في آلاف الأفلام الأخرى.
في فيلم «الوطني»، كثير مما في الحكاية الصهيونية معكوس على نحو كبير للغاية، فالفيلم منذ البداية يعيد صياغة شخصية بنجامين مارتن بما يتلاءم مع الدّور الذي ينتظره، دور البطل الذي ستغفر له جرائمُه التالية جرائمَه السابقة كلّها، ماضيه كلّه، من خلال فجيعته الخاصة على يد العقيد الإنجليزي القاسي. أما الصهاينة فيقولون للعالم إن ما ارتكِب ضد اليهود من جرائم، يبيح لأحفادهم أن يرتكبوا ما أتاحت لهم قوتهم من مذابح ضد غيرهم، لأن أجدادهم عانوا، سواء أدركوا أو لم يدركوا أنهم يقومون بدور السفاح الذي قتلهم، كما لو أن في داخلهم هدفاً واحداً هو التفوّق على ذلك السفاح، لكن مأزقهم كان دائماً أنهم أمام ضحايا لا يستطيعون الموت أبدًا.
تأتي السينما الأمريكية لتورط العالم ببطلها الذي تتمّ صناعته بوصفة محددة؛ فمن يقوم بدوره عادة ممثل معروف له جمهوره العريض في العالم، بحيث تختلط صورته بصورة الشخصية المكلومة التي يؤدي دورها. هنا في «الوطني» يأتي النجم معززاً بطيبة من نوع ما، بتعب أو حتى إرهاق من ماض يريد أن ينساه! لكن (الشرّ) يجرّه رغمًا عنه ليعود إلى ذلك الماضي.
في فيلم لعب بطولته ذات يوم فرانكو نيرو، يكون البطل قد دفن رشاشه في المقبرة، كما يدفن ميتًا عزيزًا، ولكن الشرّ يضطره للحفر وإخراج سلاحه وقتل مزيد من البشر انتقامًا لما لحق به، ويبقى بالطبع بطلًا مهما كان عدد القتلى حوله، كذلك الأمر يحدث مع رامبو، بطل السلسلة التي حملت اسمه، الذي يبيد ما شاء له المخرجون من بشر فيتناميين وأفغان، أو يبيد ما شاء من عراقيين ويابانيين وصينيين وكوريين، في حقول القتل التي هيأها قادته له، وأن يخرج من ذلك بطلًا، بفعل غطرسة القوة وقدرتها على تلميع صورته ليكون أجمل من مئات الضحايا الذين سفك دمهم، ومئات الآلاف الذين سحقهم جيشه.
لكننا حين نصل إلى خيري علقم وإبراهيم النابلسي وعدي التميمي ورعد حازم وكثيرين غيرهم، يحوّلهم قتلتهم إلى إرهابيين، هم الذين لا يدافعون عن وطنهم وأحبائهم وحسب، بل يدافعون عن قيم كبرى احتضنتها البشرية، بل وأعطتهم الحق الكامل في القتال من أجلها.
وبعد:
من جماليات العالم التي لم تزل فوق كل قوة، أن الغطرسة تستطيع أن تصنع أبطالها الخارقين، لكن المقاومة الإنسانية هي وحدها القادرة على أن تصنع الرموز الأخلاقية الكبرى. يمكن للغطرسة أن تصنع وتفبرك وتُعلي شأن طغاتها وسفّاحيها؛ من بنجامين مارتن، إلى رامبو إلى بوش الأول وبوش الثاني، لكن المقاومة النبيلة هي وحدها القادرة على صناعة الرموز البشرية الكبيرة التي تضيء بنبالتها طريق العالم؛ من مانديلا، إلى غاندي ولومومبا، مرورًا بجيفارا ومارتن لوثر كنغ وجميلة بوحيرد وعمر المختار وصولًا إلى غسان كنفاني و…

1