انتهت أعمال الندوة التي دعيت للمشاركة في أعمالها في بيروت، وكنت حضرت من عمّان، وقررت المكوث في بيروت أياما إضافية على نفقتي، ولذا انتقلت إلى هذا الفندق البسيط المتواضع في شارع خلفي مواز لشارع الحمراء.
تناولت الإفطار، ثم انتقلت وجلست في قاعة الاستقبال، وطلبت قهوة، وأخذت في تأمل حركة الناس الصباحية، مستذكرا أياما خلت.
دُفع الباب ودخل رجل يعرج متوكئا على عكاز. وقف وتأمل القاعة، ثم ابتسم وخطا باتجاهي فنهضت غير واثق أنه يريد رؤيتي. توقف وهو يتكئ على عكازه، وأمال رأسه، واتسعت ابتسامته، فحاولت أن أتذكره. هز رأسه:
-لن تتذكرني، فأنت رأيتني مرتين ثلاث..ومن بعد افترقنا.
خطا خطوتين وثبّت جسده وفتح ذراعيه، ورفع صوته:
-بالعبط...
فاحتضنته.
-الم تكن تردد هذه العبارة؟ بالعبط...
-أنا ناصر..ناصر صاحب الساق التي دُفنت في بيروت، وكتبت أنت نعيا لها..قرأته في حلقة من حلقات برنامجك( كلامنا بلدي) في إذاعة الثورة؟!
أُرتج علي. أخذت في تأمل وجهه، وشعر الشيب على فوديه، وانحسار شعر جبينه، محاولا استعادة ملامحه عندما كان يرقد في المستشفى، واصطحبني صديقي الفنان المصري عدلي فخري وعرفني به.
جلسنا متقابلين. ابتسامته واسعة مضيئة، ونحن نغرق في الصمت.
انتبهت للدموع وهي تبدو كغشاوة في مؤقيه، وأنا أشعر ببلل عيني وثقل في صدري.
-أين أنت حاليا؟
-في النرويج. ألم يخبرك نضال حمد؟
حاولت أن أتذكر:
-مرّة زمااااان أخبرني...
-رحلتي طويلة طويلة. من ميناء بيروت على متن السفينة المتوجهة إلى عدن، ثم بعد فترة نقلت إلى روسيا..أقصد أيام الاتحاد السوفييتي، وهناك ركبوا لي ساقا ...
ضرب على الساق الصناعية:
-بعدئذ إلى بولونيا، ومن هناك إلى النرويج..و..حصلت على الجنسية..وتزوجت بنتا فلسطينية من فلسطينيي لبنان، من عين الحلوة..وأنجبنا ولدين وبنتا..كبروا...
غشاوة من حزن على وجهه وفي عينيه اللتين ذبلتا مع مواصلته الكلام.
-أترى! هذه نهاية..ألهذا...
مسح دموعه، وهز رأسه، وعض شفته السفلى.
-ألهذا؟ و..كما قلت أنت في نعيك لساقي، ونصحتني قبل رحيلنا على السفن: دع ساقك مدفونة هنا يا ناصر، دعها مزروعة في تراب لبنان..في بيروت..لصق جدار مقبرة الشهداء،وعد ذات يوم و..زرها، واقرأ لها الفاتحة. لقد فعلت..ونبشت الأرض التي دفنتها فيها.ووجدتها..عظاما بيضاء هشّة. مددتها في بيت آلة كمان..واتكلت على الله و..توجهت بالطائرة إلى الأردن. ومن بعد إلى الجسر، فأنا أحمل الجنسية النرويجية..وعند جسر اللنبي طلب مني الجنود اليهود...أن أفتح بيت الكمان، ففعلت، وعندما رأوا ما في داخله أخذوا ينادون بلغتهم غير المفهومة، و..حضر من يبدو أنهم مسؤولهم، وقال بلؤم وهو يتأمل عظام ساقي، وكأنه عرف نيّتي: هاتها..لا دخول لك وهي معك...
-هذه ساقي و..لا أتخلى عنها. لقد أحضرتها لأعيدها إلى ...
لم أكمل، وكدت أقع من دفعه القوي لي.
-غادر..لا دخول!
-و..السلاااااام..و..أوسلو. أنا قادم من النرويج...
-عد إلى هناك..أو هاتها لنرميها بعيدا..هناك في النهر.
واشار صوب نهر الأردن الذي كان يجري قريبا من حاجز العبور.
استدرت، و..نمت ليلة في عمّان، ثم عدت إلى بيروت..أول أمس. اتصلت بصديقي نضال فأخبرني أنك في بيروت، وأنك تنزل في هذا الفندق..وها أنا أمامك.
-وساقك؟!
سألته بلهفة لأعرف مصيرها:
-لا، لن آخذها إلى أوسلو..ستبقى هنا في بيروت..ف..ما زالت العودة بعيدة، و..ساقي لن تمر وهم هناك. بيروت وطنها..حتى...
مسح دموعه:
-يوما ما..سينقلها أبنائي إلى..هناك قرب صفد..قرب صفد.
نهض وفتح ذراعيه.. وتعانقنا:
-أنا حاجز وسأسافر مساء اليوم. سعيد أنني شفتك...
مضى متمهلاً وهو يتأمل كُلّ شئ وكأنه يبحث عن ما فقده ويحاول استعادته.
لبثت واقفا اتابعه بنظري حتى توارى في شارع فرعي.
طلبت سيارة أجرة لتوصلني للمطار، فطائرة عمّان موعدها الرابعة مساء...
وهكذا اكتشفنا ىمبكرا الكذبة..كذبة العودة في زمن أوسلو!
*إلى نضال حمد في أي مكان من تلك البلاد البعيدة. إلى ناصر حيث يقيم..وإلى ساقه المدفونة في بيروت التي كنست الاحتلال وطاردته حتى الجنوب قرب الشمال الفلسطيني...
سأعود وساقي معي!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 25.06.2022