كانت الشمس الحارة تجعل الشرطي يزرب عرقا غزيرا من جبينه وعنقه، ومع ذلك لم يخلع الشرطي النحيف المتوسط الطول غطاء رأسه حتى لا يفقد هيبته فلا يعود الناس يخشونه.
ظلّ يمشي من أوّل المخيم، من المخفر الذي يقع غربي الإسفلت والمحاط بالبوص وببعض الأشجار التي تزهر ورودا صفراء وحمراء..وأنا أمشي وراءه إلى أن اقترب من حيث نقيم فركضت وناديت على أبي وأخبرته وأنا ألهث بأن شرطيا يقترب من شارعنا، فاحتضنني أبي وربت على كتفي وهو يخبرني:
-حاليا توجد حكومة وطنية، والشرطة لم تعد تحبسني أنا وأمثالي.
لم أفهم سوى أن أبي لن يسجن، وهذا ما طمأنني.
سألني أبي:
-هل قرأت دروسك؟
هززت رأسي موحيا بأنني قرأت دروسي. وددت أن أخبره بأن اليوم هو الخميس، وأن غدا الجمعة، وليس علينا مدرسة، وأنني أوّد أن ألعب مع أصحابي، ولكن أبي سمع صوت عمي عبد الرحمن فاتجه إليه بنظره وهو يفتح بوابة الدار من جهتهم، والشرطي يقف وجها لوجه معه.
راح أبي إلى حيث يقف العم، وصار وجها لوجه مع الشرطي الذي حيّاه بوّد.
قال الشرطي للعم:
-هناك من أخبر أن عندك فردا...
تريث العم في الجواب، ثم قال:
-آ..عندي .
-شاويش المخفر يريدك مع الفرد...
-لماذا ...
-أنا لا أعرف ..أنا عبد مأمور. الشاويش يعرف، أمّا أنا فلا أعرف.
هزّ أبي كتفيه بلا مبالاة، ورجع وتمدد داخل الغرفة مفتوحة الباب والنافذة لتخفيف الحّر.
-ساتبعك بعد قليل لأنني مضطر للذهاب لحراسة صهاريج الماء.
-أعرف أنك تحرس صهاريج الماء. شغلتك مريحة..ولكنها لا تحتاج لأن تحمل فردا.
رفع الشرطي غطاء رأسه ومسح عرقه عن عنقه وصدره وفرك شعره القصير بمحرمة قماشية ونفخ:
-يوم من جهنم...
ثُمّ استدار ومضى مبتعدا وصوته يرتفع:
-لا تتأخر يا..
-أبو أحمد...
صار صوت الشرطي وراءه وهو يغّذ مشيه ليصل بسرعة إلى المخفر وينعم بالبرودة.
غسل عمي وجهه وعنقه، ولم يمسح الماء، فقد احتفظ به ليساعده على تحمل جحيم النهار الصيفي اللاهب.
لف الفرد ومعه ثلاث رصاصات واتجه إلى المخفر وإلى خزانات الماء الواقعة غربيه، والتي لا تبعد عنه سوى أمتار قليله.
انتبه عمي إلى أنني أتبعه، فسألني:
-أين تذهب في هذه النار التي تشوي البدن؟
-معك يا عم، حتى أخبر والدي لو حدث لك شئ ...
-لنمش بجوار حيطان البيوت...
أسرعت وصرت أمشي محاذيا له. مرّت سيارة مدير المخيم، فرفع عمي يده وحيّاه، لكنني لم أر المدير يرّد التحية. قلت في سري لعله ردّ التحية ولكن السيّارة كانت مسرعة فلم نتمكن من رؤيته يرفع يده.
وقف عمي في مدخل المخفر ونادى على الشاويش:
_ يا أبوهاني..يا حضرة الشاويش.
ارتفع صوت:
-أدخل يا أبوأحمد...
وقف الشاويش في مدخل المخفر حاسر الرأس:
-بدنا نحبسك يا أبوأحمد لأنك تملك مسدسا.
_هل أنا خطر على الدولة بمسدسي؟
-آ..خطر. الملك سيمر إلى نابلس غدا، وأنت مسلّح، وعائلتكم مشاغبة، لذا سنوقفك أنت ومسدسك. كم رصاصة مع مسدسك؟
_ مع فردي ثلاث رصاصات.كان معه خمس رصاصات..طخيت رصاصتين عندما تم طرد كلوب باشا..وتم تعريب الجيش العربي.
-لازم تنام عندنا في المخفر أنت و..مسدسك. هل هو معك.
أخرج عمي الفرد من اللفة وناوله للشاويش الذي أخذ يتأمله ويتأمل الرصاصات الثلاث.
-لماذا تمتلك هذا ىالمسدس؟ هل ستحرر فلسطين ب..فردك العتيق هذا؟ سيبقى مسدسك في ضيافتنا حتى يمر صاحب الجلالة إلى نابلس ثمّ يعود من نابلس...
استدار عمي وهو يضحك ويضرب كفا بكف:
-يلاّ يا رشاد..هيا لنجلس في مكتب الوكالة مع عمّال النظافة. أنت تحب الشاي مثل عمّك..سنشرب شايا ما فيش مثله.
ضحك عمي عبد الرحمن وهو يسرع في المشي:
-أتدري يا ابن أخي: الفرد إبرته مكسورة، يعني لا يطخ.
وغرق في الضحك حتى طفرت الدموع من عينيه:
-عندما أستعيده غدا ىسأتهمهم بأنهم كسروا إبرته. هذا الفرد إبرته مكسورة منذ حرب ال48..أي والله منذ تلك الحرب التي خسّرتنا كل شئ..كل شئ..ولا أجد من يصلحه! بدّو شغل كثير حتى يصلح ويرجع يطّخ..آه يا رشاد يا حبيبي..لما تكبر رايح تعرف..وربما تصلحه أنت..وتطخ..حتى ترجع لذكرين.
*الفرد هو المسدس باللهجة العّامية الدارجة.
*ذكرين قرية من قرى قضاء الخليل، وهي مسقط راس رشاد، وقد احتلتها العصابات الصهيونية في يوم الجمعة الأخير من شهر تشرين أول عام 1948
فرد عمّي عبد الرحمن!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 22.04.2022