انسحب الجيش من حول المخيّم، ورّفع منع التجوّل، فانطلقنا إلى البراري نلعب ونصيح بأعلى أصواتنا بعد عدّة أيام من الحصار.
اشتقنا للمدرسة،ولأساتذتنا، ولملاعبنا في السهول الممتدة شرقا، والتي يشرف بعضها على أودية عميقة متعرّجة.
أنا وفوزي نطنطنا باتجاه قصر هشام، فقد اقترح فوزي أن نتسرّب من بين الأسلاك الشائكة المحيطة بالقصر والآثار والنجمة الحجرية، لعلنا نتمكن من رؤية ما بداخل الغرفة الكبيرة المسقوفة على شكل جملون، والتي أخبرنا أستاذ التاريخ أنها قاعة استقبال الخليفة لضيوفه الكبار، وأن فيها شجرة تفاح وغزلان وأسد من الفسيفساء- شرح لنا الأستاذ ما هي الفسيفساء- وأدهشنا عندما ضحك وضرب كفا بكف:
-الخليفة، كما يقال، لم يحضر إلى هذا القصر الذي أراده مشتى له ولحاشيته!. سألناه عن حاشيته فأخبرنا بأنهم من يرافقونه من الرجال والنساء.
سألته:
-يعني النساء يا أستاذ: أمه. وزوجته..وبناته؟
اقترب مني مارا بين المقاعد، وأمسك بأذني:
-أنت أزعر يا رشاد!. الخليفة كانت عنده نساء كثيرات، فهذا من حقه...
-ليش؟
سأله فوزي
-أنتما أزعران...
تسللنا من بين الأسلاك. فوزي رفعها فانحنيت ومررت جسدي بحذر، ثم رفعتها فدفع بجسده بلا حذر فانشق ظهر قميصه، فوقف حزينا وهو يتلمس ظهره.
-يلاّ..قبل ما يجينا الحاج عثمان.
ركضنا متجاوزين الحجارة المتراكمة والمتناثرة والحشائش الجافة.
-دير بالك من العقارب والحيايا...
حذرني فوزي.
أخذنا في التقافز فوق الحجارة حتى بلغنا تلك الغرفة الكبيرة، وارتقينا الحجارة، وأخذنا نبصبص عبر طاقة وحيدة ترينا جزءا من أرضية القاعة التي فيها غزلان وشجرة تقاح وأسد...
-أين كان يجلس الخلفة يا فوزي؟
-تحت هذه الطاقة..و..لكنه لم يجلس هنا لأنه لم يحضر، ولم يستقبل أحدا من الكبار...
سمعنا حلفنا صوتا عريضا حازما:
-عندك يا ولد...
نصبنا ظهرينا فرأيناه شاهرا عصاه المبرومة ذات الرأس المدوّر والتي يهزها في الهواء ليخيفنا.
طار فوزي فوق الحجارة، أما أنا فألصقت ظهري بالجدار.
سألني:
-مش خايف؟
برم طاقيته البيضاء حول رأسه، ثم تأملني:
-أنت لم تشرد!
أجبته:
-ليش أشرد يا عم الحاج؟
-ألا تخاف مني؟
-لا..لا أخاف منك!
-ليش؟
-أنت محترم يا عم الحاج، ونحن لم نفعل شيئا. أردنا التفرج على غرفة الخليفة.
-إبن من أنت يا ولد؟
هبطت عن الحجارة فأرخى يده بعصاه.
-انا ابن ..أنا رشاااااد...
-ابن صاحبي؟.
ثم ابتسم وهو يبرم طاقيته، ويستدير:
-لا تدخل من بين الأسلاك، فربما تجرحك. انت لا تسرق الأسلاك لتلعب بها..صح؟
هززت رأسي.
-عم الحاج: إذا كان الخليفة لم يأت إلى قصره في الشتاء، فلماذا بناه، ها؟!
ضحك الحاج عثمان:
-حتى أحرسه له! في أي صف أنت يا رشاد؟
-في السادس يا عم الحاج عثمان.
عندما صرت بجواره تنبهت إلى قصر قامته:
-الخليفة لم يكن يدفع من جيبه تكاليف بناء القصور، وفي أيامنا أيضا يوجد من يفعلون نفس الشيء. هل فهمت...
توقف واستدار:
-ألم يُفهمّك والدك؟
مضى ملوحا بعصاه بين كتل الحجارة المتناثرة. أمّا أنا فلحقت بفوزي الذي كان ينتظر وراء الأسلاك...
سألني فوزي:
-شو قال لك الحاج عثمان؟
-قال لي: الخليفة هشام بن عبد الملك كان معه مصاري كثير..ولا يهمه أن تُبنى له قصور لا يزورها...
-هذا كلام أبوك الشيوعي يا صاحبي..وليس الحاج عثمان!
* رحم الله الحاج عثمان حارس قصر الخليفة هشام بن عبد الملك. كان مخيمنا، مخيم النويعمة قريبا من القصر، والحاج عثمان هو أفريقي ولد في القدس و..عُيّن حارسا للقصر، وقد عرفت بعد سنوات أنه قريب للمناضلة البطلة فاطمة برناوي.
حارس قصر الخليفة!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 08.12.2021