أشعلت سيجارة، ابتلعت الدخان الحريف والقوي قبل أن أدور بالمقعد أمام حاسوبي لأدوّن ما حدث معي اليوم. عندئذ، نظرت إلى ساعتي التي أشارت عقاربها إلى الساعة العاشرة مساءً، كنت في حيرة من أمري إن ابتسم أو أحزن، وكما قالوا أسلافنا: "شرّ البليّة ما يضحك"، فقد حضرتني الآن قصّة سمعتها عن رئيس الوزراء البريطاني تشرشل ومفادها:
"ركبت سيّارة الأجرة يومًا، متوجهًا إلى مكاتب إذاعة الـ (bbc) لإجراء مقابلة، وعندما وصلت إلى هناك، طلبت من سائق التاكسي أن ينتظرني أربعين دقيقة حتّى أعود... اعتذر السائق وقال في وجوم:
لا أستطيع، حيث علي الذهاب للبيت، لكي أستمع إلى الرئيس ونستون تشرشل على الراديو الذي سيلقي خطابًا هامًّا، كما قالوا اليوم في الإذاعة".
ويضيف تشرشل بصوت حماسي: لقد ذهلت وفرحت من شوق هذا الرجل للاستماع إلى أقوالي، فأخرجت مبلغ عشرة جنيهات وأعطيته إيّاها بكلّ سرور. عندما رأى السائق المبلغ قال:
ليذهب تشرشل وأقواله إلى الجحيم، أنا بانتظارك هنا كما تشاء، حتّى تعود يا سيدي!!
***
لماذا أروي لكم هذه القصّة؟ عندما التقيت اليوم مع صديقي الفنان الممثل المسرحي متعدد المواهب والمهارات الشخصيّة، استطاع هذا الفنان أن يجمع بين العلم والبسمة. موهبته الفذّة جذبت الجماهير، واستطاع أن يرسم البسمة على الوجه وإضحاك الناس وهذا الأمر يحتاج إلى العمل الحثيث لصقل هذه الموهبة. شعرت بأنّ همًّا ثقيلًا يرقد على قلب هذا الصديق، وقد اعتدت على اللجوء إليه عندما أشعر بالحزن والملل لاستمع منه ما يسعدني وينسيني همومي، وأردت أن أردّ له الجميل وأهوّن عليه بحديث طريف يبعد عنه ما هو فيه، فقلت له: اسمع ما حدث معي في أحد المقاهي في مدينة كرمئيل، قبل عدّة أيّام.
ماذا حصل؟
كنت ذاهبة إلى مقابلة صديق لي يعمل في مكتبة الرامة، وكان لديّ الوقت الكافي للقاء هذا الصديق، وفي الطريق دخلت إلى مدينة كرمئيل التي تقع على الأراضي المصادرة من القرى العربية المجاورة، الدير والبعنة ومجد الكروم ونحف. أردت أن أشرب شيئًا ساخنًا، فأعجبني مقهى يبدو أن روّاده من شخصيّات البوهيما، جلست وناديت على النادل، واتضح لي أنّه عربي من إحدى القرى المجاورة فرَفَّ له قلبي. طلبت منه كوب قهوة، وقد لاحظت أن هناك رفًّا عليه بعض الكتب، فسألته: هل لي بأحد الكتب لقراءتها بينما أحتسي قهوتي؟ قال النادل بعد أن أحنى رأسه بوقار وفي سحنته بعض الافتخار وقد تيقّن أنّني عربيّة: أنصحك بأن تقرئي كتاب للكاتبة ابنة بلدنا... فسألته: من هي ابنة بلدكم؟ فنطق أمامي اسمي بوضوح وهو لا يعرفني، فسألته بخبث: هل هي جيّدة؟ فأخذ يكيل المديح لي ولكتاباتي، حتّى أنّه حدّثني عن تفاصيل إحدى قصصي... شعرت بنوع من السعادة والتعاسة في نفس الوقت، فالشاب وسيم ومن جيل أبنائي، وتمنّيت لو أن أبنائي يقرأون مثله، حتّى لو لا يعرفون الكاتب بشكل شخصي، فالشاب يفتخر بي وهو لا يعرفني، والأهم أنّه قرأ لي بعض القصص، وهذا أمر نادر بين شباب اليوم، فقلت له ومنعًا للإحراج: أحضر لي أحد كتبها... وكان من الطبيعي ألا اقرأ شيئًا، فتصنّعت القراءة وقلّبت بعض صفحات الكتاب، ولكنّني عندما أردت المغادرة، ناولته إكرامية كبيرة قائلة: انك تستحق ذلك، فنصيحتك كانت جيّدة بالقراءة، وأنصحك أن توصي بهذه الكاتبة لكل زبائنك العرب... وأضفت للمداعبة: إذا التقيت بالكاتبة ابنة بلدكم، أخبرها بأن هناك امرأة من بلدها، ولكنها تسكن في حيفا حاليًّا، وبأنها معجبة جدًا بما تكتبه... فردّ علي النادل بارتياب: سأخبر شقيقتي بذلك، وهي بدورها ستخبرها، فهما صديقتان منذ الطفولة...
ابتسم صديقي الممثل بعد سماعه هذه القصة، لكن علامات المرارة ما زالت تبدو على َوجهه النحيل وخصلة شعره المائلة على جبينه الشاحب، ولم يبارحه الشعور بالقلق والهم. عندها، لم أتمالك نفسي وسألته:
ما بك يا صديقي؟ لقد أتيت إليك لتخفّف عني همومي، فوجدتك تحتاج لمن يخفّف عنك همومك، ماذا دهاك؟
اسمعي ما حدث معي اليوم، ذهبت إلى الطبيب النفسي بعد أن شعرت باكتئاب شديد، وقد نصحني الأصدقاء بالذهاب إليه ليجد لي وصفة تساعدني على التأقلم مع الواقع المعاش، فأنا رغم كثرة أصدقائي، أشعر أحيانًا بالوحدة وتصيبني نوبات هلع حتّى وأنا وسط الزحام الشديد، وقد نصحني بهذا صديق عزيز، بعد أن قرأ ما وضعته على صفحتي في الفيسبوك.
وماذا وضعت على صفحتك؟
أجاب صديقي دون أن يرف له جفن:
وضعت اقتباسًا للشاعر المصري الراحل صلاح جاهين، يقول فيه: "أنا شاب لكن عمري ألف عام... وحيد لكن بين ضلوعي زحام... خايف ولكن خوفي مني أنا... أخرس ولكن قلبي مليان كلام".
جميل جدًّا، لكن هل نصيحة صديقك ساعدتك، أقصد هل ساعدك الطبيب بشيء؟
في البداية كنت متردّدًا بشأن الذهاب إليه، لكن بعد تفكير طويل، وجدت أنّني لن أخسر شيئًا سوى وقتي الذي لم يعد ثمينًا بالنسبة لي، فذهبت إليه، وبعد حديث مطول بيني وبين الطبيب، وقد كان يسجّل على حاسوبه كل كلمة أقولها، وقد تحدّثت إليه بتفاصيل التفاصيل عن حياتي... بعدها اقترح عليّ الطبيب أن أبحث عن أمور مفرحة ومسلية تبعدني عن الكآبة، وذكر وشدد أمامي أن الحياة تشبه البحر فاذا كنت وحيدًا كئيبًا فمثلك مثل الصياد في وسط البحر في زورق غير صالح فقلت له: لقد فعلت كل ما أستطيع ولم تتركني الكآبة... فسألني الطبيب: هل شاهدت أفلامًا أو مسرحيات كوميدية؟ أجبته: لا... عندها شد الطبيب على يدي، واقترح عليّ ان أذهب إلى مسرح الزاوية في الشارع القريب لأشاهد هناك فنانًا كوميديًا مضحكًا جدًّا، مؤكّدًا لي أنّني عندما أراه سأضحك من قلبي كثيرًا، وأنّني سأنسى الكآبة، فهو على حد قوله، يذهب إليه مرارًا... فسألته إن كان يقصد مسرح الزاوية الذي يقع داخل مقهى الزاوية المعروف؟ فأجاب: نعم هو بذاته، هناك يمكنك الأكل والشرب والاستمتاع مع الفنان الكوميدي المضحك الذي سينسيك بعض همومك... عندها، قلت للطبيب وأنا في كامل دهشتي: انظر إلى وجهي، هل تعرفني؟ نظر الطبيب إليّ وقال: ربما صادفتك في مكان ما، فوجهك ليس بالغريب... ابتسمت بمرارة وقلت له: يا حضرة الطبيب، هذا الفنان الذي تنصحني بالذهاب اليه، هو أنا!!!
وماذا كانت ردّة فعل الطبيب؟
أخذت عيناه ترمشان وكأنهما ممتلئتان بالرمل.
هذا أنا!!
بقلم : ميسون أسدي ... 24.11.2021