يقرفص قبالة المخفر المحاط بالبوص، وبالدفلى بزهرها الناري، ويشيح بنظره عن رئيس المخفر الذي ينصب قامته فوق درجة إسمنتيه في المدخل تؤدي لفسحة فيها كراس متناثرة قشية بأرجل خشبية قصيرة، ولغرفته مفتوحة الباب تطل مباشرة على الشارع، مثبّت على مدخلها لوحة خشبية مكتوب عليها: السيّد رئيس المخفر- الذي هو شاويش بشريطتين- والذي كلما تأمل اللوحة يشعر بالفخر بأنه رئيس.. رئيس المخفر.
كلما رحب به صاحب المقهى الملاصق للمخفر بصوت عال مع ابتسامة محيرة، وصيحة: أهلا بالرئيس..رئيس المخفر، يشعر بأن ( أبوحسن) يسخر منه ..ومن الشريطتين على كل كم من كمي قميصه الكاكي.
تفصل المخفر عن المقهى أجمة بوص ودفلى، ورئيس المخفر يجلس أحيانا في العصر وحوله حلقة من مخاتير ووجهاء مخيم ( النويعمة)، والذين يخاطبه بعضهم: السيد رئيس المخفر...
لحظ وجود الولد المقرفص، فغمز له بأصابعه مع عبارة:
-تعال يا ولد...
عبر الولد الإسفلت، وحين وضع قدميه بصندله الذي ينزلق من تحت قدميه، مارا بين البوص بأوراقه الخضراء الذابلة المتهدلة التي لا مست رقبته ورأسه، وقبل أن يصعد المصطبة سأله آمرا:
-أبن من أنت يا ولد؟
-ابن محمود...
ولم يكمل اللقب حتى لا يعرف ابن من هو..فيؤذيه.
-محمود من يا ولد؟
-سلمان...
( لم يقل له: يا سيدي، فوالده علمه أن لا يخاطب أحدا: يا سيدي، أو يبوس يد أحد..حتى يده هو والده)
-أهلا يا مختار...
التفت الولد فرأى المختار البدين( أبوسليمان)، وهو أحد مخاتير المخيم. عندما تجاوزه المختار..استدار و..غادر، واختفى بسرعة، لكنه غير مكان قرفصته بحيث لا ينتبه له شاويش المخفر،
لوى جسده بسرعة عندما سمع أول كلمة من فمها وصوتها، فعاجلته مبتسمة:
-والله أبي غير يذبحك إن عرف أنك تجلس هنا ل..تراني و..تحكي معي.
ابتسم.
-مش خايف يعني؟
كلمته وهي تحدد نظرها باتجاه حنفيات الماء قرب الصهريجين، بينما كان باص نابلس الأفطس – هكذا يصفه الناس لأنه بدون بوز- يندفع متثاقلا، والسائق يطل من عل باحثا بنظره عن ركّاب يحملهم إلى نابلس..أو مخيم العوجا في طريقه.
أوحت كأنها تنتظر مرور الباص، أمّا هو فوقف وكلمها دون أن يلتفت إليها.
-ولماذا أخاف من والدك أو غيره؟! أنا أحب التفرج على باص نابلس الأفطس..ودائما أنتظر مروره، حتى ونحن في المدرسة أتشعبط على سورها لأتفرج عليه وهو ينحدر ثم يندفع مواصلا سيره إلى نابلس. يا الله شو عجيب باص نابلس..و..حلو.
-حلو يا أهبل!
-آ..وبيجنن!
كتمت ضحكة صغيرة فاهتز جسدها النحيل. وضع يده على فمه ليكتم ضحكته، ثم استدار ومضى إلى الجدول، وقعد على حافته بانتظار أن تملأ جرتها وتعود والجرة ترشح على منديل رأسها ورقبتها وتسيل في عبها.
يا الله ما ألذ الماء وهو يسيل بين قبة فستانها و..صدرها..والله ألذ من باص نابلس الأفطس! ابتسامتها من تحت الجرّة المائلة على رأسها بدلال التقت بابتسامته الملهوفة على لمس عنقها المبتل بماء جرتها...
الولد الذي يقرفص على الرصيف!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 10.06.2021