قالت وهي تعلم أن هناك آذانا صاغية حولها، مع أنها لا تستطيع أن تميّزهم بالنظر فقد حرمها الله من النظر، فبعد سنين طويلة من عمرها، شاهدت ما يكفي من الأحداث المثيرة:
في قريتنا الجبلية يزيّن الربيع الأرض كسابق عهده ويهيج المشاعر بالأمنيات. الشمس مشرقة. النسيم عليل وما أروع ذلك. ايقظتني شقشقة العصافير. فتحت عينيّ وأخذت أنصت لتغريدها الرائع كأنغام الناي. شرّقت لبير الشرق الواقع تحت مقام الخضر في قريتنا، حتّى أقطف الخبيزة وبعض من "زمبوط الصنارية" لأحوسها مع رأس بصل فيتغدّى أولادي عليها. غمر خير الربيع البلد، كان نبات الفقوع أعلى من أطول الرجال، طوله مترين. كنّا في صغرنا نصنع من الفقوع العرائش وننام تحتها. أردت وضع رجلي على "السنسلة"، وهي جدار فاصل بين حدود الأراضي مصنوع من أكوام الحجارة المتفاوتة الحجم، وإذ بطَيْرٌ باشق مِنْ فَصِيلَةِ الجَوَارِحِ بطول متر ونصف يحط بقرب مكان موقع قدمي ويلتقط أفعى بفمه ويحلّق بها وهي تلوح في كل اتجاه، صرخت فزعة بما أوتيت من قوّة. وحمدت ربي على هذه الصدفة التي أنقذتني من لدغة أفعى قاتلة، كنت سأبرك في مكاني دون أن يدري بي أحد وأفطس كالحيوانات...
استغلّ الزوج توقّف زوجته عن الحديث، فعلّق ساخرًا بكلّ هدوء وبصوت منخفض:
كنّا ارتحنا منّك.
كان وجه الزوج العريض يعبّر عن خلو البال، لكنّ عينيه الصقريتين كانت قاسيتين تجاه ما سمعه من زوجته. كم أحببت يديه القويتين والمليئتين بالعقد كفُرعي سنديان. لم تعره الزوجة العجوز انتباهًا وواصلت حديثها وهي شديدة التأثّر كالعذارى اللواتي يغبن مع الأحلام:
شو كان الناس راح يقولو عني لو لدغتني الأفعى؟ يا ويلي من ظلام ليلي، كانت الألسن ستلوكني، وسيقولون بأنّني كنت برفقة عشيقي وتركني وحدي في المنطقة الجبلية المقفرة ورجع إلى القرية، شعرت وكأنّني طير محلق في سماء عاصفة مجنونة يهوي فجأة كالحجر على الأرض، مكسور الجناحين.
انتبهت العجوز بأن جميع الحضور ما زالوا يصغون باهتمام لحكايتها، فطاب لها الحديث واسترسلت قائلة:
مرّة رحت على المحفرة من دغاشيش الله (منذ الصباح الباكر) قبل أن يستيقظ أولادي من نومهم، وصارت المحفرة تكت على رأسي بكتل ترابية بيضاء، كنّا نستعملها في بناء مواقد الشتاء ورشق جدران البيوت الطينية. خفت أن تسقط الكتل الترابية على رأسي وأدفن حيّة بالمحفرة، فهرولت هاربة وفي الطريق صادفني "أبو الهيّل" وهو هبولة البلد، وبيده سكين، وبدأ يتمختر أمامي وعوى وصرخ كالمساعير قائلا: "انا الفلان الفلاني ابن فلانة وعلانة ومعي سكين حادة اقتل من يعاندني". خفت على روحي فقلت لأبو الهيّل: قاسم العطار ورائي- وهو أحد قبضايات البلد- هيّا بسرعة حمّلني لجن التراب على رأسي حتّى أعود قبل أن يمسكني، فخاف أبو الهيّل واحتقنت عيناه دمًا على الفور، وساعدني على حمل لجن التراب وخبأ السكينة في جيب قمبازه وجرى مسرعًا حتّى اختفى عن انظاري، ومن يومها وانا أقول: "هيئ الرفيق قبل الطريق".
توقّفت العجوز عن الحديث واستلقت على ظهرها لتقطر الدواء في عيناها حتّى تخفّف من ضغطهما، ثمّ استأنفت قائلة ببساطة متناهية:
إنّها الفطرة الإنسانية، يبدو لك الإنسان بسيطًا ولكن عندما تحلّ به محنة عصبيّة تتصاعد من أعماقه قوة عظيمة هي الجمال الإنساني.
أخذت أفكّر بما سمعت منها، وبصراحة لم استوعب عمق ما قالت. انتهز الزوج فرصة توقفها عن الكلام، قال موجّهًا الحديث لي:
مرّة من المرّات، توجّهنا أنا ومجموعة من شباب البلد للسباحة في البحر، وما أن دخلنا المياه وإذ بشابة يهودية تقول لنا بعنجهية وكبرياء أنثوي: سأسبح أمامكم ومن يستطيع منكم اللحاق بي سأمنحه نفسي.
تأوّهت العجوز بكل استهزاء لما قاله زوجها وقالت بصوت خافت:
اسمعي، اسمعي تخاريفه الفاضية، هاي القصّة صار حاكيها مائة مرّة.
ولحسن حظّها أن الزوج أصم لا يسمع ما قالته، فواصل حديثه متفاخرًا:
كانت الشابة اليهودية ماهرة في السباحة وما أن يقترب أحدنا منها كانت ترفسه بأطراف أصابع قدمها رفسة خفيفة فيعود إلى الوراء وهي تسبح مبتعدة إلى العمق بكل خفّة. انتبهت بأنّنا ابتعدنا كثيرًا عن شاطئ البحر في السعي وراءها، ونحن أبناء قرى الجبل لا نجيد السباحة مثلها، فنهرت على اصحابي لنعود إلى الشاطئ ونتركها لحالها، وفعلا عدنا وتركناها وعندما خرجت من البحر اختارتني أنا من بين المجموعة، اقتربت منّي وربّتت على كتفي وقالت: لم يستطع أحد اللحاق بي في البحر.
*****
ما أثار انتباهي في قصص الزوجين العجوزين، أنّه تنبعث منهما صحّة مرحة حارّة، ويتحدّثان صدقًا عن كلّ ما يرد في بالهما. وهبتهما الطبيعة روحًا متّقدة، يتمتّعان بشهيّة ممتازة وحتمًا بالاتزان النفسي. وتباهيا أمامي بأيّام شبابهما وبما مضى ولكن لم يصدّق أحدهما الآخر، بل استهزأ الواحد بقصة رفيقه، مع أنه من وراء سطور الحكاية، أراد كل منهما لفت انتباه رفيقه رغم كبر سنّهما، فقد حطّمت الأيام أحلامهما الوردية وتفجرت الحياة الفظّة فاكتسحتهما بأمواجها العكرة، فهي فقدت نظرها وهو فقد سمعه وهما رفيقا الدرب لسنوات طويلة، واحتفلا منذ مدّة باليوبيل الماسي لزواجهما واقتربا من عقدهما التاسع. فكانا رِفاقا ورفقاءُ على طول الطريق. أمثال هؤلاء الناس يسيرون وهاماتهم في السحاب.
*****
انهما والداي، ودائما يستغلان زيارتي لهما، ليستفيضا بالحديث عن الزمن الغابر، وأنا أحثهما على ذلك، فأنا تتملكني رذيلة لا براء منها ألا وهي رذيلة الاستماع ورواية القصص وهذا الأمر بالنسبة لي جزء من الهدايا التي أحضرها لهما في زياراتي المتقطعة، فهما معًا بحاجة لرفيق يحثهما على الاستمرار في دربهما التي قاربت على نهايتها... بعد الكبر تخليا عن الازهار والسكاكر والموسيقى وعن كلّ مصدر للسعادة وجال الهدوء بيتهما وروحهما.
الرفيق قبل الطريق!!
بقلم : ميسون أسدي ... 20.09.2020