أطلق العنانَ للسانِه ولم يَعُد من اليسير إيقافه، وقال الكاتب المعروف عمّار:
جاءت ساعة الفرج... جاءت ساعة الفرج!
ركضت إليه زوجته من مطبَخِها إلى مكتبته ووجدته منكبًّا فوق كتبه ماسكًا رأسه بيديه الاثنتين، فسألته:
ما بك يا عمّار؟
جاءت ساعة الفرج!
ما بك؟ قل بالله عليك. لقد أجفلتني بصراخك.
وأخيرًا يا زوجتي العزيزة جاءت ساعة الفرج!
قام عمّار عن مقعده وأخذ يدور ويرقص حول مكتبته الصغيرة المليئة بالكتب المكدّسة هنا وهناك وقال بصوت جهوري:
وأخيرًا يا أم مراد...
وضمّها إليه وأخذ يراقصها رغم أنّ كرشه لم يساعده كثيرًا على الرّقص، قالت الزوجة بفرحة مقلقة:
شو القصة يا زوجي؟
قلت لك وأخيرًا جاءت ساعة الفرج!
طيّب افرجها عني، دعني أفهم ما حدث؟ هل فزت بالجائزة التي تقدّمت لها لإحدى الدول العربية؟
لا، بل أحسن!
هل وافقت دار النشر على نشر روايتك دون بلصك؟
لا، أحسن ألف مرّة...
هل ستشارك في مهرجان القصص الدولي؟
أحسن، أحسن.
إحكي وخلصني، فاضت روحي.
أحدهم اتصل بي...
من هو؟
قارئ، إنسان عادي يريد أن يقرأ رواياتي.
ما الجديد بذلك، فالكثيرون يحبّون ما تكتب؟
ولكن الجميع يبلصني.
وما الجديد يا زوجي؟ فأنت أحمق كالطّير المنتوف.
أوّلا، هذا الرجل يريد أن يقرأ روايتي الأخيرة، وهو متابع لما أكتبه في الصحف.
وما الغريب في الأمر؟ فأنت من الكتّاب المحلّيين اللّامعين.
طلب منّي كل ما كتبته للصغار والكبار.
ولما الاستغراب؟
انه ليس انسانًا عاديًا، انه يتبوأ منصبًا مهمًا.
من هو؟
انّه رئيس مجلس محلي.
إذا فهو يريد الكتب للمكتبة العامة.
لا، يريد الكتب لنفسه.
وما حاجته لكتبِ الصغار؟
له سبعة أحفاد ويريد توزيعها عليهم.
وما هو سبب هيجانك؟ فأنا لا أفهمك حتّى الآن.
سيدفع ثمن القصص. أتصدقين ذلك؟
فعلًا أنا سعيدة لسعادتك.
استمعت الزوجة إلى همسه المتلعثم المتحشرج من شدّة الفرح:
منذ ثلاثين عامًا وأوّل مرّة في حياتي، أحدهم يطلب شراء كتبي ودفع ثمنها. يطلب الجميع الكتاب هدية. وحتّى من يعرض عليّ ثمن الكتاب أشعر بأنّه غير صادق.
الله كريم يا رجل ونحن شعب أجاويد وإن خِليَت بِليَت.
لعيونه سوف أسافر إلى دار النشر لأشتري له الكتب.
ما أكثر غلبتك يا رجل، لا تكن منفلت العنان، دع دار النشر توصل له الكتب.
دار النشر لن تسافر إليه من أجل عدّة روايات وبضع قصص للأطفال.
خسارة على بنزين سيّارتك ووقتك، أخشى أن يكون كغيره بلّيص.
لست متعوّدًا على اللّقمة السائغة وأعتقد إنّه يستأهل هذا الاهتمام، يجب تمجيده على الأقل.
قام الكاتب المرموق عمّار وجهّز نفسه للسفر إلى دار النشر ليشتري كتبه منها. بعد أن اشتراها، اتفق مع رئيس المجلس أن يسافر إليه والمسافة بينهما تستغرق ساعتين ذهابًا وإيابًا. وصل الكاتب إلى المقهى قبل موعده بنصف ساعة وفرش كتبه أمامه وهو سعيد بأنّ هناك شخصًا في مجتمعه يحبّ القراءة والكتب.
وصلَ رئيس المجلس وهو في منتصف العقد الخامس من حياتِه، بعد أن كان في جلسة موضوعها العنف المستشري في المجتمع العربي. وأطال في حديثه عن الموضوع. وبين الحين والآخر، تحيّن الكاتب الفرصة للتحدث عن كتبه:
هذه الرواية تحكي قصة شابة وهذه الرواية تحكي عن سنوات الخمسين في الجليل...والرئيس يهزّ رأسه ويبدي إعجابه وتلهّفه للقراءة، ثمّ سأله الرئيس:
هل تحبّ أن نفطر معًا أم نتناول وجبة الغذاء؟ فالوقت مناسب للاثنين.
لم يوافِق عمّار على عرضه خوفًا من إهدار وقت الرئيس ولا يريد أن يكلّفه بشيء واكتفى بفنجان قهوة. في نهاية اللّقاء نظر الرئيس إلى الكتب وعددها 21 كتابًا. وقال متأفّفا:
هل سآخذ كل هذه الكتب؟
احمرّ واصفرّ وجه الكاتب، ثمّ قال وهو يهزّ رأسه بأسفٍ هادئ قانط وكأنما يقنع نفسه بما قال:
وزّعها بين أحفادك الخمسة.
نعم حدّثت ابني بأنّني سألتقي بك اليوم وأحضر له قصصك لأولاده، وقد فرح ابني بالخبر.
ثمّ قال الرئيس بصوتٍ منخفض:
سأضع بعضًا من هذه الكتب في المكتبة العامة.
أطلق الكاتب أنّةً حزينة ولاحت في صوته نأمة زعل وقال:
هذه الكتب لك وليس للمكتبة. المكتبة حصلت عليها من دار النّشر.
ضرب الكاتب أخماسًا بأسداس وغدا صوته مخنوقًا أبح، وعيناه شبه مغمضتين وكأنّما أناخ على جفونهما عبئًا ثقيلًا، وقال بينه وبين نفسه:
راحت عليك يا عمّار، لقد بدأ برنامج البلص.
ولكنّه أخذ يهدئ من روعه معزّيا نفسه:
المال ليس كل شيء، فلا حاجة بالرئيس أن يدفع ثمن كتبه، المهم أنّ هذا البلّاص سيقرأ الروايات والأهمّ بأنّه سيوزّعها على أحفاده.
ثمّ تراءى له صوت زوجته وهي تحثّه على عدم السّفر لدار النشر وشراء الكتب له والدخول في هذا المعمعان.
فقال لنفسه بصوت خاوٍ هبط خائرًا في الحال:
لا يهمّ، قدمت للرئيس خدمةً إنسانية وأنا مستفيد من ذلك، وربّما سيطلب من مديرة المكتبة استضافتي لأمسية أدبية وهذا أهم من مال الدنيا وكنوزها.
حملَ الرئيس كيسيّ الكتب، وسار مع الكاتب حتّى سيّارته، والكاتب يزخ عرقًا من المصيدة الّتي وقع بها. ومشيا معًا من المقهى حتّى السيارة ما يقارب الـ 500 متر، والكاتب سيغمى عليه خجلًا من نفسه ومن زوجته، وقبل أن يفتح باب سيارته ويودّع رئيس المجلس، مدّ رئيس المجلس يدَه إلى جيبه وفتح محفظته المكدّسة بالأوراق الماليّة من فئة ال 200 شاقل ونبّش بينهما حتّى عثر على ورقة مئة شاقل مختبئة بين أوراقه وقدّمها للكاتب الذي اصفرّ واخضرّ واحمرّ وتصارعت نبضات قلبه وزخّ العرق عن جبينه.
رفَض الكاتب تناول المئة شاقل ولكن الرئيس دسّها في جيبه وهو مصدوم. لم يفهم الكاتب ولم يعرف ماذا يردّ عليه. انقشعت الغشاوة عن الفؤاد، رمى بالمئة شاقل على مقعد سيّارته وكأنّ هذه الورقة ستصيبه بالهربس، وحكّ جسده وهو يردّد:
آخ لو أستطيع أن أعضّ كوعي رغم قربه من فمي، وفتح مذياعه وراح يستمع إلى أغنية "شو هالأيّام إلّي وصلناها... قال إنّه غني عم يعطي فقير!".
بَلْصوص!!
بقلم : ميسون أسدي ... 24.04.2020