أشكر اللجنة التنسيقية الثقافية للهيئات المقدسية على دعوتها لي للتحدث لجمهورها الحاضر في المكان، ولمتابعي البث الحي المباشر على عدّة مواقع ألكترونية، وأثني على فكرة البث آملاً أن تجتذب متابعين يشاركون في الحوار، والإسهام في فتح آفاق تغني الذاكرة الفلسطينية، وتعمّق الوعي الجمعي الوطني العربي الفلسطيني بكّل جوانب قضيتنا.
في هذا الشهر، تموّز، رحل ثلاثة رموز من أهم وأبرز من أنجب شعبنا: الروائي والقاص والصحفي والفنان غسان كنفاني في 8 تموز 1972 ، والشاعر الثائر عبد الرحيم محمود بتاريخ 13 تموز 1948 ، والفنان الثائر ناجي العلي الذي وجه القتلة الرصاص إلى رأسه في أحد شوارع لندن يوم 22 تموّز..ورحل جسدا يوم 29 آب1988..وهم تركوا إرثا أدبيا وشعريا وفنيا باق في عقل وضمير ووجدان شعبنا، وأمتنا العربية.
لم يكن هؤلاء وحدهم من استشهدوا افتداء لفلسطين، فهناك قائمة من المثقفين الفلسطينيين الشهداء، منهم: شاعر ثورة فلسطين الكبرى نوح إبراهيم 1938، المثقف والمترجم وائل زعيتر ( روما) 1972 ، البروفسور حنا ميخائيل 1976 ، القاص والإعلامي ماجد أبوشرار ( روما) 1981، الشاعر علي فودة – بيروت 1982 ، الصحفي الكبير حنا مقبل( قبرص) 1984...
هناك مثقفون من أقطار عربية استشهدوا، منهم الفنان الجزائري محمد بوضيا، ومثقفون غامروا بحياتهم بدون تردد وواجهوا أعداء فلسطين في معارك بقيت طي السريّة، يتقدمهم الشاعر المثقف اللبناني فؤاد الشمالي، زوج ابنة الزعيم أنطون سعادة مؤسس الحزب القومي السوري...
هناك مثقفون لم يولدوا على تراب فلسطين، ولكنهم انحازوا لفلسطين التي رأوا فيها قضية عربية أولى بامتياز، منهم الدكتور محجوب عمر المصري القبطي..وآخرون برزوا في صفوف الثورة الفلسطينية، منهم الفنان عدلي فخري، وشعراء منهم الشاعر الشعبي المصري زين العابدين فؤاد، والشاعر المصري حلمي سالم. أمّا من الأردن فقد برز كثيرون يتقدمهم الإعلامي والأديب نزيه أبونضال( غطّاس الصويص)، والشاعر أمجد ناصر، والإعلامية سلوى العمد، والإعلامي طاهر العدوان، والمحامي غانم زريقات، والروائي غالب هلسا...
ما هي الثقافة، ولماذا هي هامة، وضرورية، وعنصر رئيس في حفظ بقائنا، وتواصلنا كشعب، وصون قضيتنا، وتطوير كل أشكال مقاومتنا؟!
لقد راهن أعداؤنا على أن الفلسطينيين الكبار سيموتون في المنافي، وأن الصغار سينسون..فهل تحققت توقعات عدونا؟!
بالتأكيد لا قاطعة وكبيرة، ولعل فشل رهان العدو، هذا، يشكل العنصر الأكبر في هزيمته الحاسمة القادمة لا محالة.
يدّعي عدونا أن أسلافه وجدوا في فلسطين قبل ألفي سنة، وأنه يعود لأرض أجداده، جامعا شتاته من قارات العالم، ودوله، وبلدانه، متوهما أنه لن يحتاج لكثير من الجهد في اقتلاع عرب فلسطين من أرضهم التي وجدوا فيها منذ ألوف السنين، هذه الأرض التي هي قلب الوطن العربي والجسر الواصل والموّحد.
جهل عدونا بعراقة شعبنا، وأصالته، وعمق ثقافته تبدّت على امتداد عقود ما بعد نكبة ال48.
ازدادت أعداد الفلسطينيين بعد نكبة 48، فهم داخل فلسطين التاريخية والجغرافية يبلغ عددهم ما ينوف على الستة ملايين ومئتي ألف، وفي الشتات قرابة هذا العدد، وقد بلغوا مراتب علمية رفيعة، وامتد تأثيرهم في نشر العلم في بلاد العرب بعيدا، وهو ما يُعترف ويشهد به.
السر في عدم اندثار الأجيال الفلسطينية وذوبانها: أصالة شعبنا، وتشبثه بهويته، وحفاظه على فنونه الشعبية، وعلى قيمه وعاداته النبيلة، وتوريث كل جيل للجيل التالي الانتماء المحدد للقرية، أو المدينة، التي ولد فيها من سبقوه. وهكذا زرعت فلسطين بتمامها وكمالها في نفوس الأجيال، ونمت في الذاكرة والوعي والقلوب مع التقدم في العمر، ومنذ الطفولة المبكّرة.
الفت الانتباه إلى أن اللاجئين المشردين أقاموا في المخيمات متجاورين بحسب الانتماء لقراهم ومدنهم، وحافظوا على تقاليد أعراسهم، كما حافظت نساؤهم على فنون تطريز أثوابهن، وأغانيهن، وأدخلن فيها معان وطنية فيّاضة بالحنين والأمل...
أيها الحضور والمتابعون: يولد الفلسطيني كغيره بذاكرة بيضاء، ثم تُفعّل هذه الذاكرة بما تزوّد به، من بيئته – الأبوين، ومن المدرسة، ومن مجتمعه المحيط به.
وأول ما يُزرع في هذه الذاكرة أن صاحبها له وطن، ووطنه فلسطين، وهو، إن كان يعيش في الوطن تحت الاحتلال، أو في الشتات القريب من فلسطين، أو البعيد عنها، فإنه يبدأ بتلقين دروس الوطنية والانتماء، فهناك من يحتل وطنه – فلسطين بالقوّة، وأنه يحرمه من العيش المهنئ في وطنه، ويحرمه من العودة إلى وطنه بالقوة، وأنه شرّد أهله، وقتل بعض أهله، وأن معركته مع هذا العدو مفتوحة..وأنه ليس وحده، فهو ينتمي لشعب هو الشعب العربي الفلسطيني الذي هو جزء من أمة عربية.
الذاكرة بالنسبة للعربي الفلسطيني هي كتاب تتكون صفحاته من مسيرة شعب، وآلام شعب، وبطولات شعب، ومقاومة شعب، وخذلانات شعب من الأقربين والأبعدين، فهي للفرد وللشعب سجّل حياة، وكرامة ومعرفة، وبها تحيا فلسطين ببهائها، وخضرتها، ملهمة، ومنتظرة إنجاز الوعد والعهد بالتحرير والعودة.
ذاكرة الفلسطيني تلهم وتؤجج الوعي، ومنها تبدأ هزيمة من أرادوا أن يتناثر ويتبدد الفلسطينيون أفرادا ممسوخين يتناسلون بيولوجيا، ويعيشون هائمين حياة بلا معنى إلى أن ينطوي ذكرهم.
لقد حاول عدونا سرقة تراثنا الشعبي، من أطعمة، وتطريز، وحتى دبكات ورقصات، رهانا منه بأنه سيفوز بها في غياب، أو تغييب شعبنا، ولكن حضور شعبنا أفسد عليه مخططاته، وها هو صراع الوجود يتواصل بعد سبعة عقود ونيّف، فالاحتلال لن يهنأ باحتلاله وفي فلسطين أكثر من ستة ملايين فلسطيني، وهو بسرقة صحن الحمص وأقراص الفلافل، وقبّات الأثواب الفلسطينية التي يزيّن بها صدور مضيفات طائراته..لن يصنع تراثا خاصا به.
أيها الحضور والمتابعون:
لماذا اغتال عدونا رموزا ثقافية فلسطينية؟ ولماذا حاول قتل آخرين؟!
لماذا اقترف ثلاث محاولات لاغتيال المفكّر العربي الفلسطيني الكبير الدكتور أنيس صايغ مدير مركز الأبحاث الفلسطيني، في الأعوام 1970 بمتفجرة ديناميت، و1972 بإرسال طرد ملغوم انفجر بين يديه فأفقده بعض أصابعه وألحق ضرارا كبيرا في بصره..ولم يكف عن محاولات قتل هذا المفكّر الكبير، فلجأ إلى قصف مركز الأبحاث بالصواريخ عام 1974..وأيضا لم يكتف ، فقد هاجم مركز الأبحاث في بيروت، بعد ترحيل قوات الثورة الفلسطينية عام 1982، وسطا على تراث المركز من كتب ، ووثائق، وما توفّر من معلومات؟
ذاكرة الفلسطيني اليقظة وثقافته الوطنية المكتنزة بالمعرفة، ووعيه الجمعي بتاريخه، وعراقة انتمائه، وتماسكه، وقدرته على التواصل رغم كل محاولات حصاره، وحرمانه من التواصل..تؤرّق عدونا، وتحبطه، وتوقعه في اليأس من إمكانية القضاء على الشعب العربي الفلسطيني، خميرة الوعي القومي..ومولّد الوعي الثوري في بلاد العرب مشرقا ومغربا..بقضيته التي ستبقى قضية الأمة رغم كل الخراب المتفشي.
الذاكرة الواعية هي التي تؤرّق العدو الصهيوني ومن معه، فالعربي الفلسطيني بذاكرته الحيّة الخصبة، بثقافة، بوعيه، بفنونه، بقيمه الوطنية المتوارثة..معركة لا بد من كسبها، ففيها هزيمة عدونا.
أوّد أن أنبّه إلى الحذر من هيمنة ( الثقافة) السياسة المزوّرة على الثقافة المقاومة، وهذا ما تجسد في خطاب السلام المُضلل الذي افتضح كذبه وخطره وتخريبه وانحرافه منذ كامب ديفد – السادات، وها هو يزداد افتضاحا بعد ستة وعشرين عاما من مسيرة وهم أوسلو التي ضيّعت الأرض، ومضت شوطا بعيدا في تهويد القدس، واستفحال الاستيطان في الأرض الموعودة للدولة الفلسطينية! .
بدأت ثقافة المساومة بتسفيه والسخرية من ما سموّه ( شعارات الستينات)، والتي من أبرزها: فلسطين عربية من نهرها لبحرها. والوحدة العربية طريق العرب للنهوض والقوّة..ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوّة.
منذ التوقيع في حدائق البيت الأبيض على بنود ( أوسلو) وحتى اليوم مضت 26 سنة، فماذا حققت الواقعية السياسية؟!
هنا أستعين بما كتبه المفكر الكبير الدكتور أنيس صايغ في مقدمته لكتابه 13 أيلول الصادر في بيروت عام 1994 عن منشورات مكتبة بيسان: كان الكلام، بالنسبة لي، وربما لقليلين غيري، قبل ذلك اليوم – يقصد 13 أيلول في البيت الأبيض حيث احتفي بالتوقيع على بنود أوسلو – إضاعة للجهد والوقت والطاقة، وكان الصمت جرأة. أمّا بعد الثالث عشر فقد أصبح الكلام واجبا، وأصبح الصمت هروبا، وأكاد أقول جبنا.
المفكر الكبير أنيس صايغ كتب، وحذّر، وفضح خطاب التسوية، ومسار أوسلو، والمقدمات التي تراكمت وأوصلت إلى أوسلو، فأوسلو لم يأت صدفة، ولم يهبط من السماء، كما يكتب في مقدمة كتابه المرجع لمن يريد أن يقرأ ، ويتثقف، ويعي...
ولكن، هناك من لم يرفعوا أصواتهم، وتساوقوا مع مسار أوسلو، وتسابقوا على منافع ومكاسب ما أغدقه عليهم الأوسلويون لقاء الصمت والنفاق والتبشير ...
الحضور والمتابعون: هناك أجيال فلسطينية تعيش في زمن عربي تتفشى فيه السطحية، واللامبالاة، وتتعرض لغسيل أدمغة، ولتغريب عن حقوقها وواجباتها، وللتيئيس والإحباط، وللتضليل، ولذا لا بد من التشخيص، والرد على هذه الثقافة الموجهة عبر فضائيات خطيرة الأهداف، وصحافة مشتراة، وفنون تخاطب الغرائز، وترمي إلى التجهيل وعدم الإنتماء.
هناك ( ثقافة) سياسية لأنظمة تابعة منبتة عن كل هموم وقضايا الأمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، تتباهى بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتنفّذ إملاءات أمريكا المنحازة للكيان الصهيوني، والتي بكل استهتار أعلنت نقل سفارتها إلى القدس، واعترفت بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وتواصل هجومها على شعبنا الفلسطيني بهدف إنهاء القضية الفلسطينية، وفرض حكم ذاتي يمنح الأرض الفلسطينية بكاملها للكيان الصهيوني..يضاف إلى ذلك ضم الجولان للكيان الصهيوني، وهذا ما يجب أن ينبه إلى أن الكيان الصهيوني لا يتوقف عند احتلال فلسطين وحدها، فأطماعه تمتد بعيدا في عمق وطننا العربي.
أيها الحضور والمتابعون: فلسطين – القضية تغيّب في مناهج الدراسة العربيّة، وهذا يترافق مع الخطاب السياسي الرسمي العربي التطبيعي مع العدو. أجيال فلسطينية تنشأ متباعدة عن بعضها، ومنها من لا تتقن العربية لغتنا الأم، وتتلقن ثقافة الشعوب التي تعيش بينها..فكيف نوصل لها فلسطين بثقافتها، وحضارتها، وانتمائها، وتاريخها؟. كيف نجعل من هذه الأجيال، حيثما كانت أجيالاً عربية فلسطينية، ثقافتها واحدة، وروحها واحدة، وهدفها واحدا: تحرير فلسطين قلب الأمة العربية؟!
هذا السؤال الكبير تتفرع عنه أسئلة كبيرة، تضعنا جميعا أمام مسؤولياتنا، أفرادا، ومؤسسات، حيثما كنا، وفي المقدمة المثقفون الفلسطينيون الذين يفترض أن يستلهموا حياة عبد الرحيم محمود، وغسان كنفاني، وناجي العلي..وكل من سبقونا في الشهادة ممن قرنوا الكلمة بالفعل، وانخرطوا في معمعان المقاومة مع شعبهم، ولم يترددوا، ولم يجبنوا، ولم يصمتوا...
لا بد من طرح الأسئلة، فلا محرمات سوى التفريط بحقوقنا كاملة في فلسطين وطننا الذي لا وطن لنا غيره، فلسطين قلب الأمة العربية، التي بدونها حرّة عربية لا قيامة ولا نهوض ولا مستقبل للأمة العربية.
* نص مداخلتي في الندوة الحوارية التي قدمتها تلبية لدعوة اللجنة التنسيقية الثقافية للهيئات المقدسية مساء الأربعاء 17 تموّز في مقر جمعية يوم القدس – في العاصمة الأردنية- عمان، والتي أعقبتها أسئلة وإجابات أغنت المداخلة.
أهمية الثقافة والذاكرة الوطنية والوعي الجمعي!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 18.07.2019