" ما هكذا يا سعد تورد الإبل "
"أدب القطارات" حيث تقرأ الكتاب وتتركه في سلة القطار ليقرأه راكب آخر من بعدك، وفي أوروبا توجد رفوف كتب في محطات القطار وبإمكان المسافر "استعارة الكتاب" وإعادته في المحطة الأخيرة، دون مقابل، ويمتاز الكتاب ببساطته وله صفات تشبه مطاعم الوجبات السريعة والخفيفة أو الثقافة الماكدونالدية (نسبة إلى "الماك دونالدز") .
جاءني هذا الجانر من الأدب حين قرأت رواية "تشرين" للكاتبة تغريد محمود الأحمد (أُشهِرَت في نادي حيفا الثقافي يوم الخميس 25.01.2018) الصّادرة عن "دار الشروق للنشر والتوزيع" في عمان وهي رواية تحوي 97 صفحة من الحجم الصغير، ولوحة الغلاف من تصميم الفنان جابر عباس.
تغريد ناشطة اجتماعية فلسطينية تطلّ علينا بروايتها الأولى، القطرة الأولى من غيث قلمها، فتنبئ ببداية مسيرة روائيّة واعدة تشقّ طريقها لتحتلّ مكانًا ومكانةً على الساحة الأدبيّة المحليّة.
تشرين تحكي قصةُ فتاة التقت صدفة برجلٍ يكبرها بخمس عشرةَ عامًا وأحبّته حتى العبادة من أوّل نظرة وحلمت بالزواج منه ولكن الأمر لم يكن بوردانه وضمن برامجه وحساباته فأصابتها خيبة أمل وقرّرت الانفصال عنه َ وقطع علاقتها به فيحنّ إليها رغم كونه زير نساء وفارس مغوار.
لأحلام المستغانمي حضور طاغ على الرواية (يذكّرني الأمر بكثير من مثقّفاتنا اللواتي يقحمن أحلام ورواياتها في كل محادثة ليبرزن وسع ثقافتهن ويبدو أن أسماء روايات أحلام هو مخزونهن الثقافي دون أن يقرأن ما كتبته سوى عناوين يحفظنها عن ظهر قلب)، وتمتاز "الرواية" بكثرة الاقتباسات، جمل ومقولات من هنا وهناك، التي أُقحِمت على النص بحنكة ولكنها، وحدها، لا تجعلها رواية، من أقوال أحلام ، محمود درويش، صفاء صفوت فخري ورواية زمن المساخيط "أحبه. قلت لك. كما لم أحب أحدًا من قبل"، نوفل إلياس "أرى سلمى بلا ذنب جفتني وكانت أمس من بعضي ومني"، "إما أن أكون أو لا أكون؟"، "في انقسام الأشياء خسارة كبيرة" وغيرها.
لتغريد رسالة اجتماعية نسوية وتنادي بتمكين المرأة لتكون جريئة وتقتحم ذاتها وتتلذّذ بها لتريح نفسها بدلًا من مقاومتها، فتنادي بالتحرّر وكسر القيود، شعاراتيّة بامتياز، فتتبنى نظرية الانثوية أو النسوية (Feminism) بقشورها فتصرّح على لسان بطلتها :"بدأت حياة جديدة، انكسر القيد، انكسرت القيود كلها وأصبحت حرة. لم تعد تخاف على شيء ولا من أي شيء. جسمها صار ملكها، فما أحلى طعم الحرية.
ويا أسرى أجسادكم تحرروا
ويا أسيرات أجسادكن تحررن
وها أنا أسيرة جسدي قد تحررت ولم يعد يثنيني شيء ولا أحد ولا هذا الذي يسمونه مجتمعًا" (ص. 11)، ولكنها تقع في مطبّ النمطية فتوافق، هي – بطلة "الرواية"- على التنازل عن جميع أحلامها لأجل أن تكون معه هو - بطل "الرواية"- وبسخرية سوداء تستحضر النظرة النمطيّة عن الأدوار في مجتمع ذكوري تقمع المرأة ذاتها :
"النساء عندنا تجيد فن طبخ الأكل جيدًا
والرجال عندنا يجيدون فن طبخ الجسد جيدًا
والنساء عندنا لا تجيد فن تذوّق الأكل جيدًا
ولا فن تذوّق الجسد جيدًا!"
لأن النساء عندنا حين تخرج من عالمها "المطبخ" تشعر بغربة، فكيف لها تذوق شيئا أخر في عالم ليس عالمها. وحين تصل إلى "غرفة النوم" تكون قد دخلت عالمًا غريبًا لا تجيد أي فن فيه، لأنها اعتادت فن الأكل جيدًا". (ص.39) وتصل إلى النتيجة الحتمية "المرأة حين تلقى رجلًا يحبها لأنها هي، حتمًا ستعشقه" !!
تتحدّى تغريد عنجهية الرجل الشرقي "الذي يلعب بالنساء كما ورق الشدّة"، لعوب يتسلى بالنساء، ويرفض فكرة الزواج؟!؟ "بدي اياك وبس. هادا اللي بعرفو. الحياة قصيرة، تعالي نعيشها ونلبي حاجات أنفسنا. أنفسنا بها حاجة إلى الحب. الحب وبس. الزواج مقبرة المشاعر. الشكل نفسه، الأيام نفسها، المنظر نفسه، النقاشات نفسها. ورائحة الفم نفسها! اللعنة!" (ص. 21)
تناولت تغريد في "روايتها" قضايا مهمة كالتآخي بين المسلمين والمسيحيين في بلادنا، الوعي الطبقي والحس الوطني والقومي غير المشروط عند شبابنا، جنازة الراحل توفيق زياد بفسيفسائها والتقاء كنائس الناصرة بجوامعها ولما لها من دلالات، احتراق جبال الكرمل ومدلولاتها والزوبعة التي أثارها (ألم تخطئ تغريد بتاريخه؟)، نظرة العرب خارج فلسطين لعرب الداخل (ص.56) رغم أننا عبرنا هذه المرحلة وفرضنا واقعنا على أننا جزء لا يتجزأ من الشعب العربي ولسنا بحاجة لتبرير أو دفاع عن بقائنا وصمودنا.
تغريد كاتبة مثقفة تستحضر أحلام المستغانمي، محمود درويش، مارسيل خليفة، غادة السمان...والشاعرة النصراوية منى ظاهر، العرض المسرحي/تمثيل صامت "مرة أخرى قصة حب"!، فيلم "The match point" لوودي ايلين، باولو كويلو وروايته "على نهر بييدرا هناك جلست فبكيت"، وتستغيث بالفلامنكو الإسباني، زوربا اليوناني، سامبا البرازيلية، سلسا الجنوب أمريكية... والدبكة الفلسطينية! ولا ننسى واسيني الأعرج وطوق ياسمينه! ولم تنس أغاني الشيخ إمام، سيد درويش وفرقة العاشقين.... وكأني بصديقي الراحل أحمد دحبور يتقلّب في قبره.
وتستحضر المكان فتأخذنا إلى شانزيليزيه باريس ونهر السين، جسور براغ، شواطئ جزر اليونان، أرياف المرمريز التركية، إبداعات جاودي برشلونة، ثقافات برلين، جمال صقلية، أهرامات القاهرة ونيلها، حرارة سيناء، مقاهي عمان، معرّجة على محل بيع العطور "سيفورا" الباريسي... وأسوار القدس العتيقة، وسوق الناصرة القديم! ولكن لماذا أقحمتِ "المايوه الشرعي" يا تغريد ؟!؟
تغريد نِعمَ المُثقّفة - لكنها أقحمت واستخدمت تلك الأسماء، العناوين والأمكنة لتستعرض معلوماتها وتُشير إلى سعة اطلاعها وثقافتها المتنوعّة بتكلّف فاضح لا يخدم النصّ، بتصنّع مبتذل، لا غير، وهي بغنى عن ذلك.
تعتمد تغريد المبالغة ، فتطلق على ساعة فراق معشوقها "اللحظة التاريخية"، "الشاعر العظيم"، "القائد الفذ"، "الفنانة الفلسطينية العظيمة"، "والده كان معروفًا بوطنيّته" وغيرها مما يُفقد المسميات قيمتها!
تغريد حاصلة على اللقب الجامعي الأول في العمل الاجتماعي فتقحم "نظرياته" على عالمها الروائي "للشفاء من الإدمان، من المعروف أن إحدى الطرق العلاجية هي الاستهلاك الدائم، حتى الامتلاء، ومن ثم الشعور بالتقيؤ، ومن ثم الملل". (ص. 44) تدعيم النساء والرفع من مكانتهن في المجتمع، تعب محاولات النسيان الذي يشبه عملية الفطام من السموم والمخدرات؟ ونظريات علم النفس التحليلي وديلين ايفينس، والمحلّل النفسي الفرنسي لاكان جاك الذي اشتهر بقراءته التفسيرية لسيغموند فرويد وبالتغيير العميق الذي أحدثه في مفاهيم التحليل النفسي ومناهجه، فتصل إلى النتيجة العلاجية "لا بد من التذكر دائمًا، وبخاصة في الأوقات العصيبة، أن للأزمات نهايات وليست هنالك أزمة مستديمة".
تنضح "الرواية" بالتلميحات والايحاءات الجنسيةَ والعشق الجسدي والسطحيّة التي لا تترك للمتلقّي متسعًا للإبحار مع شخوص "الرواية" مما أفقدها بعضًا من جماليّتها.
لغة تغريد شاعرية ووفّقت باستعمالها للغة المحكية وتقنيّة الحوار فزادت النص رونقًا، لكن أزعجتني الأخطاء النحوية (على سبيل المثال، التنوين)، والمطبعيّة مما ظلم تغريد فلا ضير أن يُنَقّح ويُنضّد الكتاب قبل دخوله المطبعة وخروجه للنور.
عنْونَت تغريد إصدارها ب"رواية" وأنا أراها مجموعة خواطر، قصة طويلة أو نص سردي مفتوح ، تنقصها الحبكة الروائية وحين أنهيت قراءتها للمرّة الثانية جاءني المثل الذي ارتأيتُه عنوانًا لقراءتي ما هكذا يا سعد تورد الإبل.
يُحكى أن لسعد بن مناة أخًا يقال له مالك، وكان مالك هذا خبير في رعي الإبل، وقد اشتهر بأنه أفضل من رعى إبلاً والأكثر رفقاً بها، فانشغل مالك هذا بزواجه، فأوكل إلى أخيه سعد أمر رعاية إبله. لكن سعد لم يعرف كيف يردها إلى الماء، ولم يُحسن رعايتها ولا الرفق بها، فقال فيه أخوه مالك بيتاً من الشعر أصبح مثلاً يُضرب به حتى يومنا هذا:
"أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل"
قراءة في رواية "تشرين" للكاتبة الفلسطينية تغريد الأحمد!!
بقلم : حسن عبادي ... 07.02.2018