"حياتنا كلها ميّ وملح"
يصادف 6 كانون الثاني ذكرى مرور 35 عامًا على اعتقال وسجن كريم يونس، وبهذه "المناسبة" رسم د. يوسف عراقي، طبيب تل الزعتر المهجّر قسرًا عن حيفاه ويعيش في المهجر، لوحة تحية وإجلال لأسرانا وعائلاتهم الذين يعانون كثيرًا، وهم الفصل الأهم لنضالنا وهم المستقبل، حتى لا ننسى معاناتهم في زحمة الأحداث، وعَنونها "ملح وماء" من وحي الإضراب ال 23 عن الطعام الذي خاضه الأسرى الفلسطينيون داخل السجون الاسرائيلية في نيسان 2017 وأطلق عليه "إضراب الحرية والكرامة"، و"ماء وملح" للمطالبة بتحسين ظروف اعتقالهم غير الإنسانية، وكان كريم أولّ من خاض الإضراب وشكّل واحدًا من قادته، وجاءت اللوحة، مكثّفةً بألوان درامية، لتعبّر عن معاناة الأسرى في زنازينهم، كلّ وملحه وكأس مائه، يتألم ويتأمل ويأمل بالحرية من وراء القضبان عبر نافذة الأمل والمستقبل، متسلحًا بعزيمة وإرادة، وبدعم أهله الذين يعانون، هم أيضًا خلف القضبان، يتألمون وينتظرون ساعة حريّه سجينهم، وهم، كما قالت السبعينيّة في رواية "ميّ وملح" :"طول عمرنا حياتنا كلها ميّ وملح".
تزامن رسم لوحة د. عراقي مع قراءتي لرواية "ميّ وملح" للروائي أنور حامد (الصادرة عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر اللبنانية ومكتبة كلّ شيء الحيفاويّة، وتقع في 223 صفحة، أما لوحة الغلاف فهي للبولندية إيفا ميرسكا والفلسطينية حنين حامد).
لأنور حامد عدّة روايات : منها حجارة الألم، شهرزاد تقطف الزعتر في عنبتا، جسور وشروخ وطيور لا تحلّق، يافا تعدّ قهوة الصباح، جنين 2002، والتيه والزيتون).
استلهم أنور حامد مضامينه من مصادر كثيرة، وغلب عليها طابع "التحقيق الصحافي" فجمّع عناوين جذّابة و"مغرية"، بما فيه عنوان الرواية مستغلًا إضراب الأسرى، وحبكها بلغته وأسلوبه. كلّ منها يصلح ليكون قصة قصيرة أو نص سردي مفتوح ولكنه "ثعلبها" و"بندقها" في كتاب سمّاه رواية جاءت شعاراتيّة بامتياز. منها حادث دهس في القدس حين "أقدم سائق شاحنة صغيرة على دهس مجموعة من الجنود كانوا ينتظرون الحافلة" (ص. 125)وكذلك قصة قتل رحيق بيراوي ابنة الرابعة عشرة عند حاجز زعترة واغتصاب طفولتها بدون ذنب، وعمليات فردية هنا وهناك، مصادرة البيوت في القدس القديمة والاستيلاء عليها من قبل المستوطنين، وقصّة السجين المحرّر الشيخ عبد الرحمن.
تناول أنور حامد القتل بدم بارد، ضحايا المواجهات مع جيش المحتل، فشل أوسلو، شلل السلطة الفلسطينية وكونها "مريونيتة" بيد قوات الاحتلال وتُغنّي على موّاله، بل وترقُص على دفّه، الحواجز والمعابر، عذاب الأسرى الفلسطينيين داخل السجن وخارجه، أثر العذاب وعواقبه على الأسير المحرّر، الأمراض، الإعاقة والعجز (بما فيه العجز الجنسي مع كل تداعياته) الذي يخلّفه السجن، معاناة أهل الأسير وذويه والصراعات الدينيّة بين الأهل وتخبّطاتها.
تناول حامد بجرأة ظواهر فساد مستشرية في المجتمع الفلسطيني ومنها ظاهرة "الواسطة" على كل المستويات والمجالات، نفاق السياسيين وانتهازية أصحاب الشعارات والخطابات الممجوجة، الفصائل أصبحت مومياوات تصحى في ذكرى انطلاقتها تضجّ وترجع لتنام، وصارت السلعة الأكثر انتشارًا هي الكذب والنفاق.
تطرق حامد إلى صراع الهوية لدى جيل الشباب وتخبّطاته، العلاقة بين الجنسين ونظرة المجتمع إليها، ازدواجية المعايير بالتصرف تجاه الدين، واللباس والحياة اليومية.
تطرق حامد قليلًا، رغم عنوان الرواية، إلى معاناة الأسير وعذابه في السجن ووسائل التعذيب، الجسدي والنفسي، حاولوا إقناع السجين أن زوجته تخونه وأن رجلًا آخر ينعم بجسدها! ورغم ذلك تحدى سجّانه ودولته بجسده، بجوعه وأمعائه الخاوية.
تطرق حامد لمعاناة أهل الأسير وذويه، فأمه العجوز تتعذّب يوميًا، "أشيا بتنحكا وأشيا بتنبكا" و "ما حدا بيعرف بعذابنا غير اللي ذاقوه" (ص. 49) والوجع ما حدا بيحسه غير اللي عاشه، وتعود إلى بيت صامت يستوطن الحزن جنباته ويثقل عليه غياب الحبيب الذي ابتلعه السجن. ناهيك عن ألم أم الأسير المحرّر التي ترى فلذة كبدها يوميًا "أخذوه زلمة بصحته وعافيته ورجعوه حطام. أخذوا ابني ورجعولي شبح."(ص.52) ومحاولة زيارة الابن السجين وسفر 8 ساعات عبر حواجز وتفتيش وانتظار، وصلت إلى هناك أخيرًا ... لكنها لم تره! وتبقى وحيدة مع ألمها وغربتها... وتعود بحسرتها، بانتظار موعد آخر... ووعد آخر!! فتصير أصعب الأمور في تجربة السجن "إنهم ينجحوا في سجن اللي برة واللي جوة".
وتناول ظاهرة المُراءاة والازدواجية بالتعامل مع الأسرى وقضيتهم، فهمّ المسؤولين في خيم الاعتصام مع إضراب الأسرى هو استعراض صورهم على صفحات الفيس بوك، والشعراء يلقون قصائدهم اللزجة أمام الملصقات، وجماعة الفصائل يحضرون إثبات وجود "وما حدا بينكوي بالنار إلا الأسرى وعائلاتهم"، ويصوّر حامد زيارة أحد الوزراء لمنصّة تضامن مع الإضراب بسخرية لاذعة حين يقول :"ثم، اقترب المشهد من ذروته، جيء بكوب زجاجي، ووضِع على المنصة أمام الوزير. أمسكه بحركة مسرحية، سكب الماء وقليلًا من الملح، رفع الكأس ببطء إلى فمه، وأخذ بعض رشفات، بالهنا والشفا. واشتعلت الأكف بالتصفيق والتهبت الحناجر بالهتافات".(ص.81)
كما وتطرق إلى إرهاصات وإخفاقات إتفاقية أوسلو "موضوع المياه مؤجل حتى مفاوضات الحل النهائي، وحتى ذلك الحين مياهنا ملك المستوطنات، لرفاهية سكانها، أما نحن فعلينا التقنين في استعمالها"(ص. 60)، الفلسطيني يطل على مستوطنة "حلميش" فيرى "قطعة ثقافية ونمط حياة هبط من عالم آخر وفرض نفسه على بيئة لا ينتمي إليها".(ص. 77) فهم يجلبون بيوتهم الجاهزة ومعها الأساطير ويغرسونها وسط هذا التاريخ القائم! بقي الفلسطيني مؤمنا بالنضال حتى أوسلو وعندها أحس أن الموضوع كان كذبة دفع ثمنها. مشروع المقاومة ككل قد انهار. باتت "البلد مش عارفة وين رايحة، لا السلطة عارفة ولا الشعب عارف". ويتساءل : "ألم تنته الثورة والانتفاضة بأوسلو؟" وأصبح حلم الخرّيج أن يعمل في مؤسسة أجنبية لا ترتبط رواتبها بالسلطة ليحصل على راتبه كل شهر بغض النظر عن موجات الصعود والهبوط في علاقة السلطة بالاحتلال والمانحين! وصار لرجال السلطة مطاعمها!. لكنه لم يتناول حق العودة، وللأسف الشديد تتجنّب غالبية كتابنا ومثقّفينا، وخاصة "الأوسلويّون" منهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، التطرّق لهذه القضيّة الجوهرية وتتجاهلها. ولكن رغم ذلك نجد بصيصًا من الأمل لمواصلة الحياة.
أنور صاحب أسلوب ساخر بسوداويته "ربك لن يهونها، ولو ضاعفت عدد الركعات التي تؤديها كل يوم. لن تتغير الأحوال بمعجزة لو تضرعت أمي في صلاتها آناء الليل وأطراف النهار"(ص. 34)، ويسخر من الأوسلويين "عاد إلى الوطن مع عائدي أوسلو، لكن والديه كانا قد رحلا....فقد وجد البيت ولم يجد عائلة. الدار قفرة والمزار بعيد" (ص. 37)، المهاترات والمزاودات التي بغالبيتها ضريبة كلامية فيتحدث عن القدس بحرقة :"حولوها إلى رمز خطابي يتغنون به بينما المدينة ومؤسساتها تتآكل، شوارعها تغترب، بيوتها تفقد هويتها وساكنيها"(ص.41) وتحولت الإضرابات التي كانت احتجاجًا على الاحتلال، لتصعيد النضال ضده، "متعلقة بالرواتب، التي تدفعها، السلطة، التي تتسولها من الأوروبيين والأمريكان والعرب، لتنوب في دفعها عن المحتل الذي لا يزال يحتل الأرض والسماء والماء والهواء".(ص. 82) وتصل ذروتها حين يقول :"في بورين بكت أشجار الزيتون وما من أذن تصغي. وفي نابلس تحركت فيهم النخوة دون نداء. هكذا سنهزم المشروع الاستيطاني بالتأكيد: بمكارم الأخلاق والتنانير المحتشمة".(ص. 109)
حاول حامد محاولة يائسة وبائسة أنسنة السجّان المحتل، ومدير المستشفى والمحقّق الأمني (ص.178) بعيدة كل البعد عن الواقع.
أزعجني تفكير أنور بالإنجليزية مع ترجمات شبه حرفيه للعربية رغم لغته العربية الرائعة، الراقية والجذّابة وتساءلت : لماذا ؟
يظلم حامد جمعية بتسيلم فهي منظمة غير حكومية ، المركز الإسرائيلي للمعلومات عن حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، من أهدافها توثيق وتثقيف الجمهور الإسرائيلي حول الاعتداءات على حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، محاربة إنكارها السائد بين الجمهور الإسرائيلي. تقوم المنظمة بانتقاد خروقات حقوق الإنسان التي تتم في الأراضي المحتلة الموجهة ضد الفلسطينيين، وتقوم بدراسات تتطرق إلى الاعتداء على الفلسطينيين وفضحها في المحافل الدوليّة، ولها دور وتأثير كبيران من خلال الفيديوهات التوثيقية الفاضحة التي عُرِضت على الشاشات العالمية وخاصة أيام الانتفاضة، ولا تعالج القضايا الفردية والشخصية.
استعماله للغة المحكية وتتبيلها بالأمثال الشعبية كان موفّقًا مما زاد الرواية انسيابية وسلاسة وصبغها بالعادية اليومية، لا تخلو "الرواية" من بعض نصوص تُقارب القصة القصيرة أو الطويلة في بعض جوانبها ومكوّناتها الفنيّة. في لغة الرواية ومعمارها الفنيّ نواقص وأكثر من خلل، تخلو شخصياتها وأحداثها من ترابط، أدّى إلى ترهّل في الحبكة.
قلّما نجده يهتم بفنيّة ما يطرحه أمامنا من قصص أو خواطر، كذلك يُلاحَظ عدم إلمام ومعرفة أنور حامد بطرق السرد الفنيّة الحديثة، أو نفي هذه الطرق، واختياره طريق هو أقرب إلى الرواية الشعبية، اعتمد على عفوية السرد وتلقائيته فبرز اهتمامه بالمضمون على حساب الفن.
أزعجتني الأخطاء النحوية (على سبيل المثال، التنوين ع الطالع والنازل، مش بمحلّه)، والمطبعية (كتابة "الله" واسم الجلالة خطأ في كل صفحات الرواية) مما ظلم أنور .
أخيرًا، أنور حامد صاحب فكر، ولديه الكثير مما يستحقّ أن يُدفق في قوالب فنيّة ترقى إلى مصافّ الإبداع لكنه يحتاج لخطوات كُثُر باتجاه فنيّة السرد وبناء أشكاله.
قراءة في رواية "ميّ وملح" للروائي الفلسطيني أنور حامد!!
بقلم : حسن عبادي ... 09.01.2018