قرأتُ رواية " نرجس العزلة " للكاتب الفلسطيني باسم خندقجي ، الصّادرة عن منشورات "المكتبة الشعبية ناشرون " في نابلس وتحتوي على 169 صفحة ، تصميم ولوحة الغلاف لكامل قلالوة.
باسم شاعر وروائي فلسطيني يقضي حكمًا مدته ثلاثة مؤبدات داخل سجون الاحتلال الاسرائيلي وله العديد من الاصدارات الشعرية والروائية ومنها ديوان "طقوس المرة الأولى"، ديوان "أنفاس قصيدة ليلية" ورواية "مسك الكفاية ، سيرة سيدة الظلال الحُرّة" والعديد من المقالات النثرية والشعرية والسياسية.
يصف باسم كتابه بمنثور روائي "محض صدفة أو محض عشق". انها رواية شاعر أحَب امرأة البدء ، لاجئة من قرية السنديانة قضاء حيفا، حبيبته الأولى وأول العشق وأول الدهشة وأول حيفا ،أحبّها وخذلته لتتزوج غيره وتعيش في الخليج، وعلاقته مع فاديا النابلسية المُغايرة، وحبه لامرأة الهوية والدهشة الحيفاوية التي يشتهيها ويقرر العزلة الحارقة ومن ثم يقرّر ألا يزور حيفا لأجلها كما زار قرطبة ليصير شاعر بلا مدينة ... بلا وطن... بلا شعر ...
يعيدني عنوان الرواية إلى الأسطورة اليونانية ونرسيس الذي عُرف ب"نركسوس" أو نرجس الذي كان مصدر إيحاء لنظرية العقدة النرجسية لسيجموند فرويد التي تقول بأن نرجس يمثل الشخص الذي يعجب بنفسه ويعتز بها لدرجة تنسيه إعجاب الآخرين به، وتنسيه أيضًا حبه وإعجابه بالأخرين، والذي يؤدي في النهاية إلى انسلاخه عن المجتمع الذي يعيش فيه وتكون نهايته حينئذ الموت أو الفناء.
لغة الرواية شاعريّة وانسيابية وأسلوبها مشوّق . يتطرق باسم، بجرأة نادرة على الساحة الأدبية الفلسطينية، إلى مهزلة أوسلو والرهان الخاسر على طاولة المفاوضات، ترويض القضية الفلسطينية ونضالها بواسطة منظمات المجتمع المدني والأهلي، التنازل عن الثوابت وحق العودة المقدس وضياعه، مأساة الاحتراب والاقتتال الفلسطيني الداخلي، ظواهر اجتماعية سلبية مقيتة ولا ينسى الاحتلال وجرائمه.
يتطرق باسم لانتفاضة الحجارة حين مارس الاحتلال اجراءاته التعسفية بحق العملية التعليمية في الاراضي المحتلة : إغلاق الجامعات والمعاهد والمدارس وحملة الاعتقالات العشوائية وحرمان الشباب الفلسطيني من الحياة الطبيعية العادية، كما يثير قضية معاناة الوطن من شح المياه في القيظ وسرقة الاحتلال المستمرة لمياهه، فلا يحق للفلسطيني حفر الأرض لاستخراج المياه الجوفية وغيرها. فكانت فضاء من الطهارة والنقاء وسطوع المغامرة حين أصبح مهر العروس سنة أو سنتين سجن وأكثر !!! ووحشية الاحتلال وعنصريته مقابل صمت العالم!
باسم، نصير المرأة، فهو يتذمر من وضعها حين يقول : "هكذا هي نون النسوة في بلده وفي كل الوطن العربي، تراها بجانبك طفلة وعندما تكبر فأنت تكبر وحدك إلى أن تتفاجأ بغيابها سائلًا أين هي بحق السماء ؟ اختفت...اختطفت ... اغتصبت اغتصابًا شرعيًا ؟!" وينتقد "ذكوريّتنا المُفرطة" قائلًا: "مجتمع ذكوري مقيت وقاسي عليها ، هي المرأة التي يجب أن ترتدي عباءة وخمارًا يسترها عنهم ويسد رمق التلصّص في عيونهم لكي تعيش مختنقة في تنافخ أحمق لشرفٍ مزيف مموّه" (ص 47).
يتطرق باسم إلى الحيرة الأوسلويّة ويصرخ ضد المبادرات المغشوشة والتطبيع ويصفها ببناء للوهم ولحظات سكر ووطن الأناقة السياسية والواقعية في غرف المفاوضات المغلقة ذات التكييف الهوائي الذي كان نتاجه " مشروع دولة من اسمنت ومنح وقروض وطحين وتمثيلات ثقافية مختلة ومشوّهة" (ص131) فعادت القيادة من الشتات بأضغاث حلم تجسد على الأرض بأجهزة أمنيّة عديدة، وشبه الوزارات والحكومات والمجالس في وطن من وهم وفرقة وطنية وعبث وفراغ يعاني أهله من أزمة في كل شيء وعلى كل شيء" (ص 61-62) .
يتحدّى باسم النظريّة الصهيونية السائدة والمهيمِنة عالميًا قائلًا :"ذلك المفهوم الوحشي الظالم، قدر شعبي أنا الذي دفع "دية الضحية" ... لتتحول تلك الضحية ما بين مجزرة وتطهير عرقي إلى جلاد مع سبق الاصرار والإجرام، تلك الضحية التي احرقوها باسم التقدم والارتقاء الجرماني النقي في معتقلات الوحشية وأفران الغاز، أحرقوها هناك، وما إن أخمدوها في أرضي حتى إحترقنا نحن. حرقوا قلب شعب بأكمله" ولذلك يرفض النهج المهادن صارخًا : "ها انا وسط المبادرات المغشوشة والمسمومة بالسلام المزيف، أرفض الاستماع إلى صوت السلام النشاز الذي يطالب بتطبيع العلاقة مع المحتل، هذا المحتل الذي يريد إحراق إنسانيتي فكيف أسالمه؟!" (ص130) ."لست عنصريا ولا متطرفا، بل طفلا سرقوا منه لعبته وقطّعوا ارجوحته واحرقوا طائرته الورقية".
المفاوضات قلبت المعايير على الساحة الفلسطينية والاحزاب صارت انتهازية في زمن الردّة الفكرية والتخبط وغيّرت "من كان رجل حزب حاد وحازم، تغير دفعة واحدة بعد أوسلو، إما أصابته ضربة سلطة أو خذلان أصاب قلبه الثوري تحول من أقسى اليسار إلى أقسى اليمين" (ص 81) فيتساءل "هل كنا أنظف صغارًا أم أننا حين كبرنا اتسخنا لدرجة أننا نستحم في كل يوم ألف مرة لكي تعود إلينا نظافة الطفولة" ؟
تحز في نفس باسم حالة الاحتراب الداخلي على وهم وخذلان في التيه وصراعات ونزاعات مريضة فيقول : "كان يؤكد على ضرورة البندقية دون عبث وفوضى، ربما رومانسية البندقية لا توترها وجنونها حين أشهرها الإخوة في وجوه بعضهم بعضا، وانتهكوا أسمى ما فيهم من قداسة وشرف ودم وحرام، هكذا تصارعوا على وهم ثم أقسموا على تقسيمه نفوذا، قطاع محاصر ماديً وميتافيزيقيًا ووطنيًا، وضفة مزدحمة بالثغرات الأخلاقية والكانتونات والمستوطنات والطرق الالتفافية" بما لا يخدم القضية وكما صرخ الروائي عاطف أبو سيف في روايته "الحاجة كريستينا" : " نتقاتل من يحرس بوابة السجن لإسرائيل" فيخاطب بطل الرواية رفيقه الذي استشهد في سبيل القضية "ايها الشهيد الأكرم والأشرف والأجمل منا جميعا قم فابصق علينا واشتمنا فنحن لم نصن الدم ولا العهد ولا الحجر منذ أن سفكنا دمنا على دمنا" (ص62).
يتناول باسم جمعيات المجتمع المدني والأهلي ذات التمويل الغربي وترويضها للمقاومة. الوطن يختنق بكل أصناف منظّمات العمل الأهلي التي تصرف بغير حساب على أمور لا علاقة لها بشأن الوطن كما كتب الروائي سامح خضر في روايته "يعدو بساق واحدة" ، لتلك المنظمات انعكاسات سلبية على المجتمع الفلسطيني كما تروي ليانة بدر في روايتها "الخيمة البيضاء" . يرفضها باسم ويصفها بدكاكين مختصة في التنمية المستميتة لتصبح سلع وطنية رابحة راتبها الشهري بالدولار أو يورو أو كذبة، "في زمن "البروبوزل" والمشاريع ذات الربحية التي تستثمر في المعاناة الفلسطينية... في زمن الذين يفتخرون بشهادات ووصفات البنك الدولي" (ص 132)، فهذه الجمعيات تعمل وفق أجندة وشروط الجهات المانِحة والمموِّلة بالتوافق وإطار أوسلو السياسي ومكافحة "التمرّد"، أي المقاومة ، وجوهر مكافحة التمرد يرتبط بالسيطرة على السكان وقتل المتمردين والعمل كبديل لفشل الأساليب التقليدية في إخماد اعمال المقاومة والثورة وهذه العقيدة مبنية على مفاهيم استعمارية مصاحبة لحالات الحروب التي يفشل فيها التدخل العسكري بالأساليب "الخشنة" فتتحايل باتباع أساليب جديدة أكثر "نعومة" من أجل حسم المعركة وتنفيذ مشروع تفكيك للمجتمع متجاهلين حقيقة وقوع فلسطين تحت الاحتلال وضرورة العمل والتخطيط لتحريرها من ذاك الاحتلال البغيض وبالتالي تحطيم الانتماء الوطني والقومي فيصرخ صرخته : "أخذلوني أكثر يا اخوتي حتى أعرّيكم واحدًا واحدًا بقصائدي" (ص 21).
يتمسك باسم بقضيته ووطنه وثوابته رافضًا عرض صديقته "باربرا" الانجليزية باللجوء والجنسية والجنس معًا لأن حيفاه تبقى حديقة الرب السرية المعدة مسبقًا للعشق ، هي الوطن كله، لم تكن كامرأة البدء، كانت امرأة الهوية والدهشة، والبلاد كل البلاد، هي المدينة الصامدة الحزينة التي تنتظر عشاقها المشردين في الأرض رغم الذل والعنصرية والاحتلال وهي التي تسكنك امرأة من وطن ووطن بلا امرأة.
يعاني وطن باسم من خذلان مزمن وتيه ويتخبط بين الرصاصة وغصن الزيتون (ص 149) ويصل الى النتيجة الحتمية بأنه يتوجب أن تكون زيتونة أولا ولكي تنتصر في الحرب عليك أن تكون رصاصة متفجرة في وجه عدوّك ويقول : "البندقية يجب أن تكون حاضرة أيضا.. لا بد من بندقية دوما" ويصرخ صرخته المجلجلة : "عذرًا ايها الوطن لقد خذلناك".
تحاشى باسم في روايته النوح والبكاء والشكوى، وتحاشى استجداء رحمة القارئ وشفقته. فهذه كلها من دلائل الهزيمة. والهزيمة عار على من سلحته الحياة بالفكر والخيال فنراه يتوق إلى السير في ركاب الظافرين ويكره مماشاة المنهزمين ووُفِّق في ذلك .
قراءة في "نَرجس العُزلَة" للكاتب الفلسطيني باسم خندقجي !!
بقلم : حسن عبادي ... 07.03.2017