أمر غريب حدث في بلدة متكئة على سفوح شمال فلسطين، كان هذا قبل شهر تقريباً، في اليوم الذي أعلنت فيه وكالة ناسا الفضائية عن اقتراب كويكب صغير على مسافة صغيرة جداً من الأرض، مرّ فوق منطقة الشرق الأوسط بقرب شديد، وأنه سيعود بعد ستة وسبعين عاماً وسيشكل خطورة جدية على كوكب الأرض.
في ذلك اليوم رأى أهل تلك البلدة غمامة حمراء بالعين المجردة، وشعروا بحرارة قوية مفاجئة وسمعوا صوتاً مرعباً مصماً للآذان، وتطايرت عن السطوح صحون الفضائيات ومناشر الغسيل، وحُجب نور الشمس مثلما يحدث عند انقطاع الكهرباء لثوان قبل عودة التيار، فتعطلت حواسيب وأجهزة كهربائية كثيرة.
جميع الناس راحوا ينظرون إلى بعضهم البعض متسائلين، وراحوا يكتشفون بأن شعور رؤوسهم انتصبت كالدبابيس وارتفعت أرنبات أنوفهم وصيوانات آذانهم كأن هناك من شدها للأعلى، وفقد كثيرون توازنهم وشعر سائقون بفقدان السيطرة على مقاود سياراتهم وكوابحها، وقال البعض إن العمارة التي يسكنها ترنحت حتى ظنها ستسقط، وسقطت أوانٍ في البيوت، وانتظر الجميع الإعلان عن وقوع هزة أرضية، ولكن هذا لم يحصل لأنها لم تكن كذلك، لكنهم سمعوا من بعض الفضائيات عن كويكب مر فوق شمال فلسطين الذي سمّته (ناسا) شمال إسرائيل. حلّ صمت على الناس في تلك البلدة، لدرجة أنهم صاروا يحيّون بعضهم باقتضاب بكلمة «سلام» ويكتفون بالرد على بعضهم البعض بكلمة «سلام» نفسها ثم يطبق الصمت من جديد.
ألفاظ أهل البلدة باتت مقتضبة جداً ومنتقاة، ملامحهم شفافة كما لو كانت ناطقة، صاروا يعدّون للمئة قبل أن يفتحوا أفواههم، كأن ما يخرج منها يُسجل في عدّاد وسيدفعون ثمن كل حرف ينطقون به.
أول من انتبه لظاهرة الصمت المستجدة في البلدة هي المختصة النفسية التي تأتي من مدينة الناصرة لتعمل في إحدى المدارس، فقد فوجئت بصمت الطلاب والمدرسين والمساعدين وجيران المدرسة، حتى ذلك المعلم الذي كان يتحرش بها بحجّة أن محياها في الصباح يمنحه طاقة إيجابية مرّ صامتاً، الأمر الذي أخرجها من توازنها لتدخل غرفة المعلمين وتسأل: من الذي مات، هل قُتل أحد في البلدة! فاستغربوا سؤالها لأن أحداً لم يمت ولم يقتل، فعادت أكثر دهشة إلى غرفتها!
انتبه أصدقاء افتراضيون لغياب أبناء البلدة عن صفحات الفيسبوك والتويتر وكأن الاتصال مقطوع عنهم، فكتبوا من شتى البلدان يسألون عن أخبارهم وسبب غيابهم واختفائهم المفاجئ، ولكن لم يرد أحد على الرسائل لفقدان الرغبة تماماً.
صمتوا واكتشفوا روعة الصمت، وبدوا نادمين على سنين قضوها بالثرثرات العقيمة، وصارت هواية أكثرهم بلوغ النشوة الروحية من خلال تأمل ما حولهم من نبات وحيوان وجماد، صاروا يديرون حوارات صامتة حتى مع الجماد، حتى فنجان القهوة يثير تأملاتهم، كيف صنعوه ولوّنوه وركّبوه، ومن زرع القهوة وأي كمية من الماء تحتاج، وهل تتعرض شجيرة البن للمرض، وكيف يكون شكلها عند قطافها، وهل تقطف بالأيدي أم بالآلات وفي أي فصل من فصول السنة، ثم من الذي يتعهد بجمعها وتصديرها، ومن الذي يستوردها، وما الذي يفعلونه حتى تصل الأسواق مطحونة لغليها وشربها بمتعة، وهل يختلف طعم الأصناف باختلاف مصادرها، وكم يربحون من هذا، وكم يربح أولئك الذين زرعوها واعتنوا بها!
فجأة صار كل شيء يثير تساؤلات سكان هذه البلدة مهما كان بسيطاً، حتى صار كل واحد منهم يتأمل ويتفكر بمعنى اسمه وبالأحرف التي رُكّب منها واللحظة التي فكر فيها والداه بإطلاق اسمه الذي سيُعرف به طيلة حياته، لماذا هذا الاسم بالذات، وماذا لو كنت أحمل اسماً آخر.
كأنهم نيام، هم وحيواناتهم الأليفة التي صمتت مثلهم، وسياراتهم التي صارت تمضي بدون ضجيجها المعهود، فما عادت تُسمع أبواقها التي كانت تستعمل للتحية وللتحذير وللحث على السير وللتعبير عن الاستياء وعن الغضب والرضى وعن فوز فريق كرة القدم، وإحضار العروس إلى بيت العريس وعن الطرب والتحدي والرغبة بالإيذاء والقوة والغزل وانتقال الفنان المغني ابن البلدة إلى مرحلة أخرى في برنامج محبوب العرب، فجأة تلاشت لغة أبواق السيارات، وإذا سُمعت فهي بالتأكيد من فعل سائق غريب.
كذلك فإن كل من كان مديوناً للمجلس البلدي بأثمان مياه أو ضرائب ورسوم أخرى، بادر وذهب ووقف بصمت في دور طويل ليسدد ديونه، وكثير من الأزواج توصلوا بدون صراع وباتفاق ورضى على الانفصال مفضلينه على الاستمرار بحياة لا طعم لها. كذلك كل من عليه دين لصاحب مهنة أو دكان أسرع لتسديده. وكثرت الاعتذارات عن أخطاء سابقة بحق الآخرين.
في يوم الجمعة التالي لمرور الكوكب كان الحضور إلى الصلاة أقل بكثير من الأعداد المعهودة، تقدم الخطيب من مكبر الصوت وخفض قوته إلى الحد الأدنى بحيث لم يعد يسمعه سوى من هم داخل المسجد.
فاجأ الجميع بأن خطبته خلت من التهديد والوعيد، وبعد الصلاة على النبي قال بهدوء: يا أبناء بلدي تباً لي، لقد نافقت وكذبت وانحزت للأقوياء منكم على حساب الضعفاء وقطعت رحمي واختلست، سافرت إلى اسطنبول وإلى إسبانيا وجدّدت سيارتي ودفعت تأمينها من أموالكم، وهناك من يتصلون بي كل صباح جمعة ليعرفوا ما هو موضوع خطبتي، فأطمئنهم بأنني سأهاجم التطرف والإرهاب وسأنكر وجود ثورات، وأنا أعرف أنه خلط للأوراق بين المقاوم للظلم والمتطرف الأحمق، هل عرفتم من هم! طبعاً ظننتم أنهم المخابرات، لا ليسوا لوحدهم، إنه طلب قادة حركات يسارية وقومية، كنت أضرب عصفورين بحجر، أسترضي المخابرات من ناحية ومن ناحية أخرى قادة اليسار، لقد منحتموني ثقة لا أستحقها، وهذه آخر مرة أقف فيها خطيباً أمامكم.
بعد الصلاة تقدم منه أحد الحضور وقال: كنا نعرف ما تفضلت به، وكنا راضين لأنك على شاكلتنا، كنا نشك بأن خطبك التي أقرفتنا حياتنا بها من توصيات المخابرات ولم نتوقع أنها توصيات يسارييين وقوميين، كنا قد اتفقنا على مقاطعتك، لأننا ما عدنا نطيق تمثيلياتك على المنبر، ولكن يبدو أنك تغيّرت مثلما تغيرنا نحن منذ مرور ذلك الكوكب الغريب الذي قلب حياة البلدة رأساً على عقب، فابق معنا وعفا الله عما سلف!!
حدث في بلدة جليلية…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 02.03.2017