كرَّستُ شتاءَ العام الماضي بأكملهِ للشعرِ العامي اللبناني، أعدتُ قراءة دواوين سعيد عقل وطلال حيدر وموسى زغيب وزغلول الدامور وطليع حمدان وغيرهم، كانت قصائدهم الرقيقة تشذِّب ذائقتي وتخلِّصها من الزوائد والشوائب، في الليلِ كنتُ أنام على أصداءِ أمسياتهم الزجليَّة المنبعثة من موقع يوتيوب تحملُ أصالة وعبق تاريخ بعيد، مغسول بصوت فيروز وندى الصباحاتِ العذبة البحريَّةِ البكر.
فيما بعد انفتحتُ على تجربةِ الشاعر البناني الكبير جميل الدويهي المغترب في أستراليا ورائد القصيدة العاميَّة المدوَّرة بنكهتها اللبنانية الرقيقة والتي تذكِّرني دائماً بقصائد غزل كتبها شعراء مثل الأخطل الصغير وإلياس أبي شبكة لحبيباتهم، فأدخلُ في حالةٍ وجدانيَّةٍ كمن يرنو إلى قمرٍ شفيفٍ في ليلةٍ حزيرانيَّةٍ أو يقرأُ رسائلَ عشقٍ سريَّة لنفسهِ، ويشبِّهُ القصيدةَ براقصةٍ تتأهَّبُ للرقص.
تجربة الصديق الشاعر جميل الدويهي بالرغم من زخمها وعمقها وأهميَّتها إلى أنها بقيت بعيدةً عن حلقات ودوائر النقد العربي الرسمي، ربما يرجعُ سببُ ذلكَ إلى كون صاحبها يعيشُ في مهجرهِ في القارة الأسترالية بعيداً عن مركزية الخطاب الإبداعي العربي، ومقرُّها الشرق، لهذا السبب لم يُقرأ كما يجب، ولم يُطرح منجزَهُ الكتابي المتفرِّد والمتنوِّع والخصب طاولةِ البحث والدراسةِ والاستقصاء، وهذا برأيي ظلمٌ كبير لأدب المنافي والمهاجر.. ظلمٌ يؤدِّي حتماً إلى الإهمالِ والنسيان.
في قصيدةِ الدكتور الشاعر جميل الدويهي تجدُ كلَّ عناصر الطبيعة اللبنانية الناعمة ومعاني حبِّ الحياة والمرأة والجمال، بدءاً من عطر التفَّاحِ وخصرِ الحبيبة وفستان الأرجوان والحبِ الأكبر من البحرِ إلى جدائلِ الحبيبةِ التي تشبهُ الموسيقى وكحلِ عينيها الشبيهِ بخيلِ العرب ومرجوحة عصافير بالحَور العتيق وغيرها من الموتيفات الشعريَّة التي يجيد الشاعر توظيفها واستعمالها بكلِّ مهارة وحذق شعري وفنِّي، كما في هذه المقطوعة التي تفيض عذوبةً ورقَّةً وانسيابيَّةً (عْـــيـــــــونِــــــك بنصّ الليل زارونــــــي
حِـــكْــــيـــــــو مَـعـي، وتْقلّقو عْيـــــــوني
اعطِيني شي نتفِة كـــــــحْــــــل للدفـــــتَر
مــــــــن وقت مــــــا رِحْتي الشِّعر أصفَر
وقالـــــو القَوافــــــي مـــــــــــا بْيَعرْفوني)
هنا شاعرٌ يسير على نهجِ سعيد عقل في كتابةِ القصيدتين، العاميَّة والفصحى، بسحرٍ نازفٍ وعاطفةٍ رقراقة تغرفُ من ماضي الأيَّام وهجَها السرياليَّ وطاقتَها المبدعة المفتوحة على التجلِّياتِ والأناشيد المؤرَّقة.
من جهةٍ ثانيةٍ لمستُ نغمةً شجيَّةً في قصائدهِ النثريَّة التي لا تقلُّ جمالاً وقيمةً عن قصائده العاميَّة، فغناؤهُ الأعزل يذكِّرني دائماً بسونيتات عشَّاقِ القرون الوسطى وهم يجوبون الأرضَ بحثاً عن لحظةِ وصلٍ قصيرةٍ أو ينتظرون عاشقاتٍ لا يأتين تحتَ شجَرِ الحنين.
الشاعر جميل الدويهي ذلك المعانقُ الأبديُّ لأشعارِ العذريِّين ولهفتهم التي تتوَّلدُ دائما من رمادِ العنقاءِ، فصوتهُ ترجيعُ حُداءِ الحبِّ النظيف المتعفِّف البريء الصافي.
(وقلتُ : أحبُّكِ.
سوف أظلُّ أحبُّكِ مثل الطفلِ، ففي عمري المـتـقـدِّمِ لا أحتاجُ إلى نارٍ تشعلني بعد هطول الثلجِ. تعالي نمشي في ظلِّ الصمتِ المفروض علينا، لا تلزمنا لغةٌ كي نقرأ حرفاً أو حرفينِ، وكي نتـعــانــقَ في شكلٍ رمــزيٍّ، لا يــفـهـمـه إنسانٌ. أعلنتُ الحـرب عليكِ، فإنَّ الحبَّ هو الفصلُ الأحلى في مذبحةٍ لا ينــجو منها أحدٌ. إنَّي لا أعرف ذاتي إلاَّ في الرقص على الجمرِ،
وفي تهديم العصرِ،
ولستُ أحاول
أن أعطيكِ سماء الفجرِ،
ولا مـــاء الينبوعِ، ولا أعــطي لـــربــيــع الأرضِ صـفــاتٍ منكِ، خرجتُ على النمط الشعريِّ السائدِ، ألغيتُ المألــوفَ، لأنَّكِ أنتِ المــطرُ).
هكذا كانَ الشعرُ عند الأستاذ الشاعر جميل الدويهي حاسَّةً خارقةً تحسنُ اقتناصَ اللحظةِ الشعوريَّة الهاربة وحالةً موزَّعةً على حقولِ الرؤى والجمال الصرف.
جميل الدويهي.. شاعرُ اللحظةِ المفخَّخةِ بالجمال!!
بقلم : نمر سعدي ... 08.09.2016