عندما ولدت، كان القلب يمتلئ برغوة كاوية، تجعل من مجرد التنفس عملية مرهقة. في تلك اللحظة اجتاحني الشعور بالرعب، خرجت الى الليل المشع وجها لوجه.. كان أبي وامي ينتظران مولودًا ذكرًا. أنا جئت بعد ان عامين على ولادة اختي الكبرى.. جهّز أبي اسمًا للمولود، لأنه كان يحب أن ينادوه "أبو سمير"، ولكنني جئت انا وبقيت الغصة في حلقه، فلم يألُ جهدًا بالبحث عن اسم لي، فقط عدّل اسم الولد لاسم بنت وبات اسمي سميرة.
عاملني أبي منذ الصغر على أني ذكر، عملت معه في الأرض وعلّمني لعبة الملاكمة واستعمال الأدوات الزراعية الثقيلة وقيادة التراكتور وغيرها. منعني من التعبير عن مشاعري، منعني من البكاء، جعل كل تفكيري وتصرفي كالرجال، كبرت وحقولي مقفرة لا تسكنها إلا الوحدة ورابية حزينة عششت بها.
قال لي احد الاصدقاء مرّة: أنت امرأة جميلة..
غضبت من الصديق كثيرًا، وقلت له: لا تقل لي امرأة، قل أي شيء ولكن ليس امرأة..
سلمتني كلمة امرأة إلى مزيد من الكآبة والإحباط وهددت تفكيري وتصرفي.
لم يتضايق منّي ذلك الصديق، ونصحني بإجراء بعض التدريبات التي ستساعدني في إعادتي لطبيعتي الخلقية.
**التدريب الاول
وقفت أمام المرآة، نظرت مباشرة إلى عيني وخاطبت نفسي:
أنت امرأة جميلة، كمهرٍ جموح، جذابة حلوة الملمس والمعشر، عيونك زرقاء، ولك تاج من الشعر الذهبي المتوهج بكبرياء الأنوثة. شامخة كحصان عربية أصيلة، انظري إلى هذا الأنف المدبّب والحاجبين المقرونين والشفتين الممتلئتين، لقد أبدع الباري في هندسة صدرك ومؤخرتك، فهما يتمشيان معًا بتكويرهما وتدويرهما وتنقلهما برشاقة الغزلان، انت لا تستعملين مساحيق المكياج، ولكن لو كحلت عينيك الزرقاوين لأبهرت من يراك.. ماذا أقول لك يا مرآتي.. عيناي الزرقاوان شاهدتان على ما اقوله.
دوّنت كل ما قلته لمرآتي على ورقة والصقتها على المرآة، حتى أتذكر كل ما قلته، حينما أعود واتحدث إليها مرّة ثانية، حسب ما ينص عليه التدريب.
**التدريب الثاني
بعد مرور نصف ساعة. هدأت وعدت للمرآة من جديد. نظرت ثانية إلى عيوني وأخذت اقرأ ما كتبت. سخرت من نفسي ومما كتبت، انتابتني الوسوسة المرضية، لا يمكن أن أخدع نفسي، فما قلته لمرآتي، هو ما كتبته على الورقة وبخط يدي..
أنا خجولة جدَّا إلى درجة المرض. بشعة وطويلة كالرجال الطوال، قلّة من النساء في العالم بطولي، وجهي أصفر كالإنسان المريض الذي قارب على الموت، شعري الأشقر يزيد من صفار وجهي.
يا إلهي كم هو السواد الذي يحيط بأسناني الرمادية وكأنني مدخّنة مدمنة، مع أنني لا أدخن السجائر، عيوني صغيرة جدَّا وزرقتها غامقة كأنها تخجل من شكل وجهي المستطيل كوجه حصان.
على من تضحكين يا سميرة؟ انت تخدعين نفسك لا أكثر، فأنت من المولعات بالمظاهر والشكليات. انت جبانة وخائفة ومترددة. إن الشعور بالحياء الاجتماعي قد ترسخ منذ الطفولة المبكرة داخلك، متجاوزًا في قوته حتى رهبة الموت.
انفجرت بالبكاء لمدة ساعة متواصلة، لم أجرؤ على النظر ثانية في المرآة، وقد أفرغت الصندوق الخشبي الممتلئ بالمحارم الورقية لمسح دموعي ومخاطي.
**التدريب الثالث
هدأت وعدت من جديد، نظرت إلى نفسي في المرآة وبدأت أحادثها، أحاور هذا الجلاد الذي يعيش في داخلي، يوسوس في قلبي وفي روحي.
ماذا تريد مني ايها الجلاد؟ فأنا كعصافير الليل لا أؤذي ذبابة.
لماذا تكرهني؟ ماذا صنعت لك حتّى تجلد ذاتي وتجعلني أهوي إلى قاع الحياة البائسة؟
لماذا تعشش في داخلي وتقفز أمامي كل يوم وتذكرني بأنني ضعيفة حزينة وباردة كلوح الثلج- ومغلقة على ذاتي، فرغباتي جد بسيطة؟
خبرني، ماذا تريد مني يا ابن امي وابي، هل يمكننا ان نتصالح وتتركني وشأني؟
عشت معي في الصغر وفي الكبر، فدأبت وثابرت كالعثة والسوس في جسدي، وأريدك ان تغادرني الآن.
اتركني وحدي أجابه الحياة بطريقة جديدة.
بكيت بكاءً مرًّا وبلا انقطاع، أصابني القلق على مصيري شعرت بذلك الاحساس الملح غير المتوقع داخل أحشائي، وبرغبة شديدة بالذهاب إلى المرحاض لأقضي حاجتي.. مددت يدي إلى الصندوق الخشبي الذي بجانبي لأستل ورقة فوجدته فارغًا، فقمت بكفكفة دموعي ومسحت عيني بطرفي كمي قميصي.
**التدريب الأخير
أجبرت نفسي على الهدوء، أخذت نفسًا عميقًا وخزّنت الهواء داخل بطني لثوان معدودة، ثم زفرته مرّة واحدة، وأعدت الكرّة مرارًا، إلى أن شعرت بالهدوء التّام.
عدت من جديد إلى مرآتي. تجملت ولبست كامل زينتي، كحّلت عيني الزرقاوين ونظرت اليهما، فرأيت امامي فتاة جميلة وقلت: أنا امرأة جميلة وأنثى بكل معنى الكلمة، ويتمناني الكثير من الشبان والكثير منهم يحاولون التحرش بي ولكنني اقابلهم بجفاء، من اليوم، سأبدأ بالتغيير، سأخرج إلى المقهى الذي ارتاده كثيرًا، وإن حاول أحد الشبّان ملاطفتي فسأقابله بالمثل وسأفعل ذلك مع الآخرين حتى انتقي لي شابا يلائمني. سأكون مثل جارتي سهام التي تجاري الكثير من الشبان، فلها عيون قطة برية، وجسد مثير بالملابس وبدونه، سهام انثى جميلة جدًا، واحيانا تنظر إليّ نظرات إعجاب، فأصاب بارتعاش بين ضلوعي. اعتقد بأن الشبان يميلون لسهام أكثر مني، فهي تملك جاذبية تتعدى الجمال، وأنا نفسي أنجذب إليها، وكثيرا ما قلت لنفسي: يا ليتني أحد الشبان الذين يبادرون إلى ملاطفتها وأكثر من ذلك، حلمت بها كثيرا وتمنيت مرارًا ان أكون رجلا، ليتسنى لي أن أكون معها في فراش واحد، ونغرق في الوصل.. فهي معجبة بي بوضعي الحالي، فكيف لو كنت رجلا..
تمعّنت في المرآة، فرأيت سهام تتجه نحوي، تضمني ورحنا في عناق طويل.. اكتشفت لذة تتجاوز حتى القدرة البشرية على تصورها، جرت في عروقي دفقة ساخنة من الدماء..
هل يعقل أنها ستقبل اعجابي بها إذا بادرتها بذلك؟
اليوم سأقول لها ذلك، وإذا جرت الأمور كما أتمنى، وعلى الغالب ستكون كذلك، سنتحدث عن تباريح الغرام، وكل مراراتي الماضية ستذهب إلى سلة القمامة .
التدريب الأخير!!
بقلم : ميسون أسدي ... 08.05.2016