(عن أميرِ القصيدةِ التونسيةِ أولاد أحمد)
لم يكن شاعرُ تونس الكبير الصغيَّر أولاد أحمد ذلك الشاعر العادي بل كانَ الصوتَ الإنسانيَّ الساكن في قلوبِ مريديهِ سكونَ الموجةِ في مَحارةِ الأبد.. لم يكن قانعاً بما توفِّرهُ لهُ حياةٌ نقصت وروداً كثيرةً بل بما يمنحهُ له حبُّ الناسِ من أسبابٍ جميلةٍ لمواصلة السيرِ في دربِ القصيدةِ المرصوفِ بالجمرِ والعذابات المضيئة.. منذ معرفتي الافتراضية بهِ والتي قاربت أربع سنوات ونيِّف كانَ دائبَ الحركةِ والبحث عن التغييرِ.. كان يؤمنُ بتفردهِ شاعراً وإنساناً يحلمُ بالثورةِ التي تحقِّقُ العدالة في ظلِّ حياةٍ ظالمة وفي الشِعرِ الحديثِ المتوثِّبِ إلى الحريَّةِ.
هل كانَ الشاعر أولاد أحمد رمبوياً (نسبة للشاعرِ الفرنسي أرتور رمبو) بالمعنى الحقيقي للكلمة.. أعتقد نعم.. فالذي يتتبَّع مسيرة نضالهِ ووقوفهِ المبكِّر مع بسطاءِ شعبهِ وفلَّاحيهِ في وجهِ السلطاتِ القامعةِ بالحديدِ والنارِ لكلِّ تحرُّكٍ شعبيٍّ يدركُ كم كانَ قريباً من النبضِ الجماهيري الذي آمن بأنَّ الشِعرَ ليسَ سوى صدىً لهذهِ الرغباتِ التي تتحرَّكُ في صدور الفقراء والكادحين من أبناءِ شعبهِ. ولا ننسى أنه تنبأ بالثورةِ التونسيَّةِ قبل اندلاعها بسنوات عديدة.
ولكن الأمرَ الذي أصابني بالخيبةِ والمرارةِ بعدَ رحيلِ هذا الشاعر الاستثنائي شعراً وحياةً ونضالاً هو مقدارُ هذهِ السذاجةِ الفجَّةِ التي يتصفُ بها أحيانا بعضُ كتَّابنا فتجعلهم أضحوكةً أمامَ غيرهم خاصَّةً عندَ رحيلِ شاعرٍ أو كاتبٍ كانَ ملءَ الأسماعِ والأبصارِ والأفئدةِ.. وإلا فما معنى أن ينقضَّ روائيٌّ تونسيٌّ على رهبةِ رحيلِ شاعرٍ بحجمِ محمد الصغيَّر أولاد أحمد متهماً إياه بسرقةِ إحدى قصائد شاعرٍ تونسي آخر وإعادةِ صياغتها في إحدى أجملِ قصائدهِ.. أقصدُ قصيدة أولاد أحمد الشهيرة (نحبُّ البلادَ كما لا يحبُّ البلادَ أحد)؟ في رأيي المتواضع أن القصيدةَ التي يدِّعي ذلك الكاتب الروائيُّ أن أولاد أحمد قامَ بانتحالها ركيكة ومفكَّكة ومضطربة الإيقاع.. حتى أنها تفتقرُ اليه.. وإلى ماءِ الشِعرِ وبريقهِ أيضاً.. وتنقصها مقوِّماتُ كثيرة.. صياغيَّة وأسلوبية لتصلَ إلى مستوى الشِعرِ الجيِّد.. ما جعلني أشكُّ بأنَّها لذلك الشاعر التونسي الراحل عام 2000 لأنَّ نفسَهُ الشعريَّ في قصائده الأخرى يبدو متماسكاً أكثرَ مع إضفاء فنيَّة عالية المستوى على نصوصهِ الشعريَّة الناضجة التي ضمَّها ديوانهُ الوحيد.
ولكن لمَ هذه الضجةُ الآن.. ولمَ الاصطيادُ في الماءِ العكر.. ما دامَ أولاد أحمد كتبَ قصيدته عام 1987 أي قبل ما يقربُ من ثلاثينَ عاماً؟ هل لأننا شعبٌ لم يتحرَّر بعدُ من نزعةِ النبش ولعنةِ التضليل؟ أولاد أحمد وفق قراءتي لمنجزه الشعري شاعرٌ كبيرٌ ولا يحتاجُ لأفكارٍ من أحد كي يكتبَ قصائدهُ ولكن لا حقَّ لأحد أيضاً أن يمنع أيَّ شاعرٍ من التأثرِ بفكرةٍ ما وصياغتها بطريقةٍ مغايرةٍ.. معبِّرةٍ وقريبةٍ أكثر.. أولاد أحمد لم يفعل شيئاً يستحقُ من أجلهِ هذه التهمةَ الباطلةَ.. هو فقط التقطَ وردةً مهملةً مرميَّةً على الأرضِ وجعلَ منها حمامةً حمراء.. أو تناولَ قطعةَ صفيحٍ ليبدعَ منها فراشةً أو وردةً.. ما جرى في نظري هو إعادةُ خلق غنيَّة لذاك النص المهلهل الفقير.. أو كتابةٌ مبهرةٌ على كتابةٍ رديئةٍ.. أو خلقُ أيقونةِ شِعرٍ أزليَّة من مجرَّد حجرٍ مطروحٍ على قارعةِ اللغةِ والنسيان.
يبقى أولاد أحمد شاعرَ الوجعِ التونسيِّ وحادي القافلة.. يبقى شاعرَ النبضِ الشعبيِّ ومحرِّكَ ماءَ البحيراتِ الراكدة. والفارسَ الذي أهدى تونسَ خضرةَ قلبهِ وقصائدهِ.
ماتَ أولاد أحمد في عنفوانِ القصيدةِ وهو يقاتلُ الغبارَ والمرض.. اللعنة على هكذا مرض.. كيفَ تجرأَ على الاقترابِ من قامةِ هذا الفارسِ المهيبِ ولم يحترق بهالةِ الكبرياءِ والغضب؟
قبلَ رحيلهِ بيومٍ واحدٍ فقط هنأته بعيد ميلاده الحادي والستين.. لم يرَ التهنئة.. أو رآها متأخراً قبلَ الرحيلِ بساعات قليلة.
رحلَ أولاد أحمد في أوجِ الربيعِ.. كما وُلدَ في أوجهِ وتقافزَ مع فراشاتهِ كما يقول:
بكَّرتُ للدّنيا صبيحة َ يومِ سَبْتْ.
كان الفرنجةُ يرحلونَ
ملوِّحينَ بشارةٍ منْقُوصةٍ من نصْرِها...
وأنا أنُطُّ مع الفراشةِ في حقولِ الأقحوان
بعْدي، بعامٍ،
إستقلّتْ تونسُ.. الخضراءُ: من جهةِ الشمالْ
هي أمُّ من؟
وأنا أخُوها في الرضاعةِ والمنامةِ والحداثةِ
والتّلكّؤِ.. والسّؤال؟
في حواراتنا الأخيرة كان يطمئنني ويقول لي أنا بخير.. لا بأس..في البيت أرتاحُ وأعالجُ علاجا خفيفاً.. مع أنني كنت أراه يذوي شيئاً فشيئاً ولكن بغيرِ انحناء.
الشاعر الذي أحبَّ فلسطين ودعاني لتونس ولم أذهب لعدم جاهزيتي فقالَ لي عندما تكون جاهزاً كلِّمني.. سأمدُّكَ بقصائد لي لنشرها في فلسطين الحبيبة.. وسأنشر قصائدك في تونس.. (يا شاعري الحبيب هل أستحقُّ أنا كلَّ هذا الحبِّ منكَ؟)
الشاعر الذي تتسعُّ كلُّ القصائدِ لاسمهِ الآن.. تبكي عليهِ فلسطينُ كلها ويبكي الشِعرُ وقلبي.
ولكنني لن أقولَ وداعاً ولكن أقولُ إلى الملتقى.
كانَ صديقاً للفراشاتِ!!
بقلم : نمر سعدي ... 04.05.2016