لا أحتاجُ إلى أكثر من ربيعٍ عاشقٍ هادئ والى أكثر من روايةٍ جميلةٍ لماركيز.. منذ سنوات وأنا أردِّدُ هذا الكلامَ الخفيَّ بيني وبينَ نفسي.. أعترف أنني لم أقرأ كلَّ مؤلفات الروائي الكولومبي المدهش غابرييل غارسيا ماركيز.. ولكنني شغفتُ بعالمهِ ولغتهِ أيَّما شغف.. قرأت له خمسة أو ستة روايات من معجزهِ الفذ.. منها ملحمته مئة عام من العزلة وذاكرة غانياتي الحزينات وقصة موت معلن.. لكني لا أستطيع التعبير عن الجماليات السامية واللذَّات الروحية المتأتية عبر قراءتهِ.. الذي قرأ ماركيز بقلبهِ الحيِّ المتفتِّح كزهرةِ صبَّار في العاصفة لا يقوى على نسيانهِ أبدا..هو أحد السحرة الرائعين القادرين على اخراجك من دوامةِ حياتكَ بخفَّةِ غيمةٍ وادخالكَ عوالمَ خيالية سحرية وخالية أيضا من الهمِّ والقلقِ الحقيقين.. أعترف بكل حب أن من امتصَّ بوعيهِ رذاذ ماركيز الضوئيَّ لا يقوى على الحلمِ الآن.. ليسَ أمامه سوى أن يصمت.. أو يتأمَّل الفراشات الصفراء التى فاضت من سماءِ ماكوندو الذهبيةِ.. ماذا سأفعلُ من دونِ ماركيز؟ ماذا سأقرأ؟ ماذا سأقول؟ أما كانَ في العمرِ متسَّعٌ كي أتمَّ قراءته؟ أو أعيد قراءة مئة عام من العزلةِ من جديد في أوج هذا الربيع..؟ أرختُ لحياتي مرَّة بقراءةِ كتبهِ.. السنة التي قرأتهُ فيها ليست كبقيَّة السنوات.. كانَ لها طعم خاص.. ملمس خاص.. عبير خاص.. دفق يشبهُ وسوسة الندى الصيفي في زهرةِ عبَّادِ الشمس.
في الاسبانية هناك إثنان.. سرفانتس وماركيز.. هما بالنسبة لشعبيهما أكثر من كاتبين. خالطني مرَّة شعورٌ أن ماركيز خلطَ عوالمَ ألف ليلة وليلة وأساطيرَ أميركا اللاتينية بمهارة أدبية خارقة.. أو حاولَ بحذقٍ ماهرٍ أيضاً إتمامَ ما توَّقف عندهُ سرفانتس من سرد غرائبي يحلِّقُ بجناحي الواقعيَّة السحرية.
قرائتي لماركيز فيها نوعٌ خاصٌ من الرهبنةِ والانقطاع شبهُ التامِ عن المشاغل المحيطة.. قليلٌ من الكتَّاب من يفعلُ فعلهُ في ذهنيَّةِ قارئهِ المتلقِّي.. أو يضربُ سوراً من الحميميةِ بينهُ وبينَ عالمهِ المحيط.. لا أعرفُ.. هذا الكاتب خيمياؤهُ غريبةٌ.. تقولُ الفتاةُ البرازيليَّةُ لزميلها العربيِّ في محطَّةِ القطارِ.. كيفَ لو قرأتهُ بالإسبانية؟! لا تتقصَّدي تعذيبي.. يجيبها.. هل لو قرأتهُ بالإسبانيةِ كنتُ سأحصلُ على أكثر من هذا السحرِ في ترجمةِ صالح علماني؟!
لا أستطيعُ نسيانهُ.. فمنذُ أن حملني في ذاكرةِ غانياتهِ الحزينات وقبلها في مئةِ عامٍ من العزلةِ إلى أعلى قمةٍ للكثافة التعبيرية والإيحائيةِ.. منذ أن أبحرَ بي في بحر بلا ماء وأنا لا أستطيعُ الهبوطَ ثانيةً من الأولمب التصويري الخارق, لا أستطيعُ حتى المحاولة أو التفكير في النزول الصعب والمرهق.
أنجز ماركيز ملحمته العظيمة مئة عام من العزلة في ثلاثةِ شهور بعدما اختزن بكلِّ عوالمها وتجلياتها وأحداثها وأظنها كانت مدة كافية بعدما عاش التجربة الروحية لروايتهِ الخالدة وتمثَّل شخوصها.. وأظنه كان يكتبُ بلا انقطاع واصلا الليل بالنهارِ ذلكَ النص الحقيقي العميق الشبيه بالوثيقة السرِّية.. النص المشتعل بأوار الشوقِ الى البساطة والحريَّة وصراخِ كلمة لا في وجه الظلم والعبودية.
كل نص عظيم هو الذي يأتي من حنايا الطفولةِ.. أو شغاف الحلم.. أو أقصى الحنينِ إلى الغيابِ الضروري لاستشعار الخسران.. كأنهُ مخضَّبٌ بزرقةِ النوارسِ البعيدة تماما كنص مئة عام من العزلة.. وماركيز الذي سحرَ بلغتهِ هو ذلك الطفل الأبدي المبقَّع بنور الحبر السماوي.. والذي يعيشُ في طفولتهِ مخضبَّاً بالأوهام والأحلامِ والعبثِ الضعيفِ الهشِّ.. وبوجعِ مستقبلهِ الإنساني.
كأنهُ مخضَّبٌ بالنوارس!!
بقلم : نمر سعدي ... 02.05.2014