أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
غراميات شارع الأعشى!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 10.04.2014

يأخذنا نص بدرية البشر الممتع وبلغته الأنيقة إلى حقبة السبعينيات في السعودية، ليرصد واقع التحولات الاجتماعية والدينية التي نالت قلب التكوينات العفوية للعائلات وناسها وتعريفهم لذواتهم الجمعية أو الفردية. فما يدور في عائلة عزيزة وعواطف، المراهقتان الصغيرتان، في تلك الفترة الزمنية الفاصلة، هو ما يدور على الحدود: يدخل بشر ويخرج آخرون، تدخل «مستوردات» وتُحظر أخرى، وكل ذلك يؤثر ويربك ما تم توارثه من جيل إلى جيل. وإحدى «الصدمات» الكبيرة للتكنولوجيا والعالم الحديث في البيت وفي بيوت الجيران كان وصول التلفون ذي القرص الدائري، والذي لم يكن يُرى إلا في الأفلام. أربك هذا الواصل الجديد أفراد العائلة ولم يكن من السهل التعامل معه: فيه صوت رجال ولذا فالاستجابة لصوت رنينه والرد عليه (النادر بأي حال) مقصور على الرجال. ثم هو يحتل مكاناً لائقاً به في قلب المجلس، وينظر إليه بخليط من الإعجاب والرهبة والفضول. يمر الوقت ويتم اكتشاف العوالم التي يقدمها هذا التلفون لشبان وفتيات شارع الأعشى.
في العائلة الصغيرة يقوم احتفال كبير عندما يقوم رب البيت بمفاجأة كبيرة ويجلب تلفزيوناً ملوناً عوضاً عن تلفزيون الأبيض والأسود. عزيزة المبهورة أصلاً بكل الممثلات والممثلين المصريين تصير أكثر انبهاراً وهي ترى سعاد حسني ورشدي وهند رستم وشادية وحسين فهمي وهم يتمايلون ويرقصون في الأفلام بملابسهم الملونة المُبهرة. لكن التلفزيون الملون يستبطن رمزية أعمق بكثير عند مقارنته بثنائية الأسود والأبيض: «الله، حلوة الألوان»، «ما أجمل الألوان» (ص 11) هذا ما تواصل تكراره الشقيقتان. هنا، الألوان هي الحياة بصخبها وتنوعها، ضد إكراهات الأبيض والأسود. إبراهيم الشقيق المغترب للدراسة في مصر يأتي من حين لآخر ليلهب خيال المراهقتين بحكايات القاهرة، وصور حبيبته المصرية. الأب في العائلة دافئ وهادئ بخلاف «الأب التقليدي» الذي نراه في كثير من الروايات: الشرس، والباطش. هو أيضاً منتمٍ إلى «الزمن الجميل» يحتضن راديو الترانزستور في معظم أوقات وجوده في البيت، يعشق أم كلثوم وعبدالحليم وفريد الأطرش... والأخبار! الأم ودودة هي الأخرى، موزعة بين الحرص على بناتها ورعاية العادات والتقاليد العفوية، وإدارة دفة البيت. والشيء الرهيف في تصوير بدرية البشر لقصص الحب الصغيرة والمتناثرة في حي الأعشى تكمن في عفويتها الطاغية، وفي تصالحها غير المتفلسف مع العادات والدين والتقاليد، وفي مناوراتها الدائمة للتمرد على القيود والتعايش معها في الآن ذاته.
يتمطى الزمن الجميل بكسل وفضول الطفل الذي يكتشف الأشياء التي يتوالى قدومها حوله، فيتعرف عليها ويبدأ بنسج علاقاته معها واحتوائها لتتسلل إلى حياته وتحتل مكاناً ما فيها. بيد أن جماع الكسل والفضول وعفوية الحياة، ومعها التوق للزمن الجميل القادم من مصر على شاشة التلفزيون، تلقى ضربة قادمة من مكان آخر، هي جماع ارتباك التدين المتطرف، الناقم على ما يحدث من «فساد» في المجتمع، والمؤمن بضرورة القيام بخطوة كبرى تردع الناس وتعيدهم إلى جادة الصواب. تحدث تلك الخطوة الكبرى وتنفجر اللحظة الانعطافية التسونامية في قلب تحولات فردية عادية على هامش السرد الروائي وفي خلفية تطور شخوصه.
في «زمن الألوان» تطوف علينا بدرية البشر في أسواق حياة الضنك التي رغم سغبها تنتج نساءً كبيرات وصلبات مثل أم جزاع ووضحى وضحى وعطوى. كل واحدة منهن تصلح لأن تكون رواية بحد ذاتها. ضحايا القمع الذكوري لكنهن المنبعثات دوماً، لا يستسلمن للتشاكي والتباكي، ويطوعن الحياة كي يعشن وتعيش لهن... عطوى: يتيمة الأم والأب تربت في بيت زوج أمها التي سرعان ما ماتت وتركتها مع رجل ليس أباها ومع زوجة جديدة ليست أمها. يجبرها الرجل الذي كان زوج أمها على العمل القاسي معه في صناعة الفخار رغم صغر سنها، في التاسعة. يجلدها بالسوط إن لم تحسن العمل، فأبدعت وصارت أفضل منه. صار عمله كلها يعتمد عليها، وخشي أن تكبر ثم تتزوج ويخسرها ويخسر ما تعمله. ألبسها لبس صبي واسماها عطية، فضاعت أنوثتها الغضة تحت ثوب الصبي الذي صارته. لكنها كبرت ولم تصبر على قسوة العمل، ثم جبروت وغيرة وبطش الزوجة الجديدة. هربت بثوب الصبي، تسلقت شاحنة تحمل أناساً كثيرين واندست بينهم، وألقت بها الأقدار في سوق بعيدة عن البادية، في سوق النساء القريب من شارع الأعشى. هناك التقتها أم جزاع، كبيرة السوق، والمرأة القوية والمُهابة والتي صنعت اسمها أيضاً بالعرق والمرارة. اكتشفت أن الصبي الغائب عن الوعي هو أنثى أطاحت بها الطبيعة إذ فاجأتها الدورة الشهرية للمرة الأولى. على يدي أم جزاع تخلع عطوى ثوب الصبي وتعود إلى أنوثتها.
نساء «زمن الألوان» النسبي يختلفن عن نساء «الأسود والأبيض» الذي سيهبط على المجتمع مع وفرة النفط ووفرة التدين المتشدد لدى البعض. التشدد ضد النساء مثلاً هو نتاج الوفرتين: «ضحكت مزنة من فورة دم ضاري (شقيقها)، تعرف أنه أصبح رجل مدينة، يشعر بالخجل من ظهورها أمام أصدقائه، على عكس أخيها الكبير متعب الذي ينتمي لعالم وضحى (أمها) البدوي، وفكرت لو أنها ذهبت إليه الآن إلى محله لرحب بها وأجلسها بقربه وسكب لها شاياً وفاخر بها عند من يدخل من معارفه الرجال قائلاً: «هذي أختي مزنة فديتها» (ص 141). ولكن عندما سألته إن كان زواجها ممن تحب «حراماً في شرع الله» يرد عليها مبررا رفضه: «لا يا ختي ما فيه ما يمنع، لكن في أشياء جات قبل الدين.. واللي يضيع نسبه بين الناس لا أحد يزوجه ولا يأخذ منه» (151).

1