
اتخذت حكومة نتنياهو، في الأيام الأخيرة، سلسلة من القرارات أدخلت الدولة الصهيونية في دوّامة عاصفة، بدأت بالعودة إلى الحرب الإجرامية، ما زاد من حدّة الخشية على مصير المحتجزين، ومن شدّة الاحتجاجات المطالبة بتحريرهم حتى بثمن وقف الحرب. وهاجت الدوّامة وتدفقت المظاهرات الغاضبة، بعد قرار إقالة رئيس «الشاباك» رونين بار، والشروع بإقالة المستشارة القضائية للحكومة جالي بهراف ميئارة، والبدء بسن مجموعة من القوانين، التي تمس ما يسمى «استقلال القضاء الإسرائيلي». وعلى الرغم من التنبّؤات بحرب أهلية، والتمزّق السياسي والمجتمعي، إلّا أن هذا الصراع لا يخرج عن حدود الإجماع الصهيوني، ويبقى محكوما باعتبارات «الوطنية الإسرائيلية»، ويبرز ذلك في الخطاب، وفي غابات الأعلام التي تُرفع في المظاهرات، وتهدف إلى بث رسالة بأن المحتجين هم «الوطنيون الحقيقيون»، وأن نتنياهو يجلب الخراب للدولة. بعد السابع من أكتوبر، ساد الاعتقاد بأن الحرب قضت على مشروع «الانقلاب على جهاز القضاء»، وعلى الأقل لن تكون عودة إليه ما دامت الحرب مستمرة. لكن تبين في الفترة الأخيرة أن نتنياهو يحاول استغلال «حالة الحرب»، لتنفيذ مشروعه بالسيطرة على مفاصل الحكم وإخضاعها لمصالحه الشخصية والحزبية، ولتوجهاته السياسية والعقائدية. وأطلق بعض المحللين الإسرائيليين على حرب نتنياهو على الدولة العميقة، اسم «الجبهة الثامنة (إضافة إلى جبهات غزة والضفة ولبنان وسوريا وإيران واليمن والعراق) وهناك من اعتبرها الجبهة الأهم بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، لأنّها ستحسم مصيره السياسي.
لقد اتخذ مجلس الوزراء الإسرائيلي قراري إقالة رئيس الشاباك والمستشارة القضائية للحكومة بالإجماع، ولم يجرؤ أحد على تحدي إرادة نتنياهو، ما يدل على تحكّمه بمركبات الائتلاف، وعلى تماسك حكومته، وبالتالي على ثباتها لمدة طويلة، ربما حتى الموعد الرسمي للانتخابات في خريف 2026. وما دامت هذه الحكومة على حالها، فالحرب مستمرة والجرائم تتراكم، والفظائع تتكّدس والكوارث تتكوّم، إلى أن تجد إسرائيل – نتنياهو من وما يردعها. أمّا مظاهرات من يعتبرون أنفسهم ديمقراطيين، فهي تتجاهل تماما جرائم الإبادة والتدمير الشامل، بل تحظى بدعمهم وباستحسان غالبيتهم الساحقة. لم تحرك حرب الإبادة والتدمير الشامل حركة احتجاج فعلية في إسرائيل، ما حرّكها هو محاولة اليمين.
إقالة رئيس الشاباك
كانت استراتيجية نتنياهو منذ السابع من أكتوبر تحميل المستوى الأمني مسؤولية الفشل، وشن حملة منظمة لدفع قيادات الجيش للاستقالة، وفعلا تنحّى عدد كبير من الجنرالات وكبار الضباط. وحاول بشتى الطرق «إقناع» رئيس المخابرات العامة (الشاباك) رونين بار، بتقديم استقالته، ولم يفلح. بار من جهته أعلن أكثر من مرّة أنه يتحمل مسؤولية الفشل، وأنه سيستقيل بعد إنهاء التحقيقات الداخلية وإعادة المحتجزين. وقد ساد توتر كبير بين نتنياهو وبار، لأن الأخير أبدى قسطا من الاستقلالية عن رئيس الوزراء، المسؤول المباشر عنه وفق القانون الإسرائيلي. ادعاء نتنياهو هو أنّه فقد الثقة برئيس الشاباك، وبأنه لا يمكنه مواصلة العمل معه في مثل هذه الحال، لذا أقاله، موجها إليه تهم الإخفاق المخابراتي قبل السابع من أكتوبر وكذلك تهمة أنه «لم يوقظه من النوم» ليلتها. ويؤكّد معظم المحللين الإسرائيليين أن السبب الحقيقي هو التحقيقات التي يجريها الشابك مع موظفين في مكتب نتنياهو حول شبهات فساد وإضرار بأمن الدولة. ويرى عدد من المعلقين أن نتنياهو يريد إقالة كل من شاهده في حالة «صدمة على حافة الانهيار» يوم السابع من أكتوبر. هناك أيضا قضية يائير نجل نتنياهو الموجود في الولايات المتحدة، بسبب إصرار الشاباك على إبعاده عن البلاد بعد قيامه بضرب والده، والشاباك يرى فيه خطرا على رئيس الوزراء، الذي يتولى جهاز المخابرات مسؤولية حراسته. وفوق هذا كلّه فإن نتنياهو غاضب على رئيس الشاباك، لأنه خالفه الموقف وطالب بإقامة لجنة تحقيق رسمية.
تبين في الفترة الأخيرة أن نتنياهو يحاول استغلال «حالة الحرب»، لتنفيذ مشروعه بالسيطرة على مفاصل الحكم وإخضاعها لمصالحه الشخصية والحزبية، ولتوجهاته السياسية والعقائدية
لقد قررت الحكومة الإسرائيلية بالإجماع إقالة رئيس الشاباك، ووصل الأمر إلى محاولة اعتداء جسدي من الوزير إيتمار بين غفير عليه. وفي إحدى الجلسات الأمنية هذا الأسبوع، قال بار «أمس هددتم بمحاكمتي، واليوم تهددون بسجني وغدا ستهددون بإعدامي». واصطف معارضو نتنياهو إلى جانب بار، ومن سخريات القدر أنهم يعتبرون رئيس الشاباك «حامي حمى الديمقراطية»، وأن إقالته هي مؤشر على أن نتنياهو يتجه نحو حكم ديكتاتوري. طالما كان الشاباك يعمل ضد الفلسطينيين ويرتكب الجرائم بحقّهم، احتفى به «الديمقراطيون الإسرائيليون» ومجدوا عمله ولم يروا فيه شائبة. ولكنهم هبّوا بقوّة حين شعروا بأن نتنياهو واليمين المتطرّف يسعيان للسيطرة على الشاباك واستعماله ضد اليهود المعارضين لسياساتهما. ديمقراطية هؤلاء تتقبّل برحابة صدر مشاركة الشاباك في الاغتيال والتصفية والتعذيب، وفي تحديد أهداف القصف خلال حرب الإبادة الجماعية في غزة، لكنّها «في خطر» حين يتعلّق الأمر بدور المخابرات في الصراعات الداخلية في إسرائيل. بعد تقديم التماس إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، جرى تجميد إقالة رئيس الشاباك، إلى حين إصدار قرار قضائي بشأنها. وما أثار غضب أوساط واسعة في المجتمع الإسرائيلي هو أن عددا من الوزراء قالوا إنهم يعارضون الانصياع لقرار المحكمة، إن هي قررت الإبقاء على بار في منصبه. وإذا حدث ذلك فعلا، فإنّ الدولة الصهيونية ستصبح في وضع غير مسبوق من الأزمة الدستورية، قد تقود إلى إضراب عام، وإغلاق مؤسسات وحتى إلى عصيان مدني. إسرائيل لم تدخل بعد إلى هذه الأزمة لكنّها تقترب منها ووصلت الى حافتها. من المؤكّد أن قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية يدركون هذا «الخطر»، لذا قد يلجؤون إلى البحث عن حل وسط ما، مثل الإبقاء على بار، إلى حين الانتهاء من التحقيقات الجارية داخل مكتب نتنياهو، أو أن يستقيل في موعد متفق عليه.
إقالة المستشارة
بعد قرار إقالة رئيس الشاباك، صادقت الحكومة الإسرائيلية بالإجماع على حجب الثقة عن المستشارة القضائية للحكومة، والشروع بإجراءات تنحيتها عن منصبها. هذا المنصب هو من الناحية القانونية رئاسة النيابة العامة، ويشمل مسؤولية تقييم ما هو قانوني وغير قانوني في عمل الحكومة، وتقديم المشورة لها والدفاع عنها أمام المحكمة العليا عند الضرورة. وقد صادقت المستشارة على كل جرائم حكومة إسرائيل ومنحت الشرعية القانونية لممارسات حرب الإبادة والتدمير الشامل، ووفرت دعما قانونيا للاستيطان والمصادرة وهدم البيوت وساهمت في الدفاع عن الدولة الصهيونية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. كل هذا الدعم لم يغفر لها، لأنّها عارضت بعض قرارات الحكومة ورفضت الدفاع عنها في قضايا اعتبرتها هي غير قانونية. كما أنها أعطت إذنا بإجراء تحقيقات في مكتب نتنياهو وعبّرت عن معارضتها لقانون منح إعفاء من التجنيد للحريديم، وطالبت بفرض الخدمة العسكرية الإلزامية عليهم. وجاء قرار إقالة المستشارة شهرين قبل بدء جلسات استجواب المتهم نتنياهو من قبل النيابة العامة، وحينها سيكون نتنياهو في غاية الصعوبة، وتعيين مستشار قضائي (رئيس النيابة) جديد ومقرّب سيخفف من وطأة الاستجواب كثيرا.
لن يكتفي نتنياهو بإقالة المستشارة وهو يسعى إلى سن قانون تغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة، وجعلها خاضعة عمليا للحكومة، ما يضمن له قضاة مدينين له في محكمة الاستئناف، التي سيلجأ إليه بعد صدور قرار المحكمة المركزية بشأنه. ولا ينتهي الأمر بالبعد الشخصي، فاليمين كلّه معني بالسيطرة على الجهاز القضائي، وجعله أداة طيّعة له. وسيكون لتغيير القضاء تأثير كبير في العديد من القضايا ومنها شطب قوائم عربية (خصوصا التجمع الوطني الديمقراطي) ومنعها من خوض الانتخابات. ويعتقد اليمين أن إضعاف التمثيل العربي في الكنيست سيؤدّي إلى ضمان أغلبية له لسنوات طويلة.
الاحتجاج
تداخلت ثلاث قضايا ودفعت بعشرات الآلاف من الإسرائيليين للتظاهر، واختلط المتظاهرون المطالبين بالعودة إلى صفقة تحرير المحتجزين، بالغاضبين على إقالة رئيس الشاباك، وانضم إليهم المحتجون على إقالة المستشارة القضائية. وأعلنت شخصيات سياسية ورؤساء جامعات وقادة نقابة العمال العامة ـ الهستدروت ومديرو المستشفيات ونقابة المحامين وغيرهم الكثيرون، أنّ عدم انصياع الحكومة لقرارات المحكمة هو خط أحمر يستوجب الإضراب العام الشامل وإغلاق الشوارع وحتى العصيان المدني. ليس واضحا ما الذي سيحدث فعلا، وهل ستصدر المحكمة قرارا بإلغاء إقالة رئيس الشاباك والمستشارة؟ وهل سترفضه الحكومة إذا صدر؟ وعليه يصح القول إن إسرائيل اليوم على حافة أزمة دستورية، لكنّها لم تدخلها بعد.
