أحدث الأخبار
الأحد 22 كانون أول/ديسمبر 2024
الانتفاضة الثالثة.. قلب الطاولة وتصحيح المسار!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 01.08.2014

ليس مصير قطاع غزة وحده بل مصير الحاضر الفلسطيني برمته، قد يدخل منعرجاً جديداً لو اندلعت انتفاضة فلسطينية جديدة في الضفة الغربية. ستقلب هذه الانتفاضة كل الحسابات الإسرائيلية رأساً على عقب وتعيد الأمور إلى المربع الأول والأصلي: احتلال عسكري كولونيالي وشعب مُحتل يثور ضد ذلك الاحتلال. وستربك مثل هذه الانتفاضة الاستراتيجيةَ الإسرائيلية العسكرية الحالية ضد قطاع غزة، والقائمة على الاستفراد والاستفادة من «الهدوء» الذي أتاحته مرحلة أوسلو العقيمة في الضفة الغربية. صحيح أن انتفاض الضفة الغربية لم يعد سهلا بعد سنوات التنسيق الأمني الطويلة والعمل المتواصل على «تعقيم» المقاومة هناك، لكن ذلك لا يعني أن ذلك لم يعد خياراً. احتمالية هذا الخيار ما زالت قائمة، لأن «فتح» وأجيالها الجديدة تحتاج إلى نفض ثوري حقيقي وتجديد حتى تُستعاد البوصلة الوطنية مرة ثانية. لماذا الحاجة إلى انتفاضة ثالثة؟
السبب الأول هو تصحيح المسار الوطني العام، خاصة بعد فشل مفاوضات السلام وبعد أن تبدى أن إسرائيل ليست في وارد قبول أي حل حتى ولو لم يلبِّ أياً من الطموحات الفلسطينية. فبعد أكثر من عشرين سنة من المفاوضات التي تعاقبت عليها حكومات إسرائيلية عديدة، وإدارات أميركية متلاحقة، ينبغي أن يكون قد ثبت للقيادة الفلسطينية أن المفاوضات بشكلها الحالي، ومن دون أي ضغط دولي (ومع تركها للاحتكار الأميركي) هي انتحار سياسي ووطني للفلسطينيين وتذرية لما تبقى من حقوقهم الوطنية. خلال عقدين من المفاوضات فرضت إسرائيل منطقها التفاوضي، وهو التفاوض بعيداً عن الشرعية الدولية وقراراتها، وعدم قبول أي طرف ثالث قد يكون نزيهاً أو شبه نزيه، يشارك فيها. الموقف الأميركي، والعربي من ورائه مع الأسف، يقوم على مقولة «نقبل ما يتوصل إليه الطرفان»، وكأن الطرفين متكافئان في القوة والندية.
الانتفاضة الثالثة، وعلى خلفية الصمود في قطاع غزة، معناها التقاط فرصة غالية لتوحيد الموقف الفلسطيني على قاعدة جديدة وعملية، وهي رفض الاحتلال ومقاومته بعد أن فشلت المفاوضات معه، وليس على قاعدة فرض المفاوضات واشتراطاتها الإسرائيلية على كل الأطراف الفلسطينية. الرئيس الفلسطيني ومنظمة التحرير والشرائح الأعرض في القيادات الفلسطينية تتبنى حقوق الفلسطينيين في قطاع غزة، وعلى رأسها فك الحصار. الالتفاف التضامني والسياسي حول تلك المطالب يعني أنه بمقدور القيادة الفلسطينية في هذه اللحظة أن تفرض مساراً جديداً، وأن تتحدث لغة جديدة، وأن تعيد «فلسطنة» الأجندة وعدم تركها للتنافسات الإقليمية، بل إعادة توجيهها في الاتجاه الوطني الصحيح.
السبب الثاني الذي يبرر الحاجة إلى انتفاضة ثالثة هو إعادة القضية الفلسطينية إلى الأجندة الإقليمية (المزدحمة بالصراعات والقضايا)، وحتى إعادتها إلى رأس قائمة القلق والأجندة الإسرائيلية. في السنوات العجاف الأخيرة، وخاصة بعد الانقسام الفلسطيني، انخفض الاهتمام والقلق من القضية الفلسطينية من كونها القضية المركزية التي تواجه «الأجندة الإسرائيلية» إلى مجرد مزايدات في سوق التنافس الحزبي بين التيارات والجماعات الإسرائيلية. تحولت الحالة الاستعمارية الأكبر والأشد فظاعة في النص الثاني من القرن العشرين وفي القرن الحادي والعشرين إلى بند على برامج الأحزاب الإسرائيلية، كل منها يريد أن يثبت لناخبيه أنه أكثر تطرفاً وتشدداً كي يكسب أصواتاً أكثر في أوساط «دولة الاستيطان» التي صارت تحكم وتتحكم في إسرائيل. الانتفاضة الثالثة تكسر هذه الرتابة التي ندفع ثمنها غالياً وتعيد القضية إلى كل الواجهات بما فيها الإسرائيلية.
السبب الثالث، وربما يكون هو الأهم، والذي يفرض على الفلسطينيين الآن الانتفاض في الضفة الغربية هو كسر «الأمر الواقع» الذي اشتغلت على تثبيته إسرائيل خلال سنوات ما بعد الانقسام الفلسطيني، وهو أمر واقع مدمر بشكل هائل للحقوق الفلسطينية، وللأرض الفلسطينية، وللفلسطينيين. هذا الأمر الواقع قام على ثلاثة مرتكزات: تعميق الانقسام، تعميق التنسيق الأمني، وتعميق الاستيطان. وقد اشتغلت الاستراتيجية الإسرائيلية على الحفاظ على هذه المرتكزات مع توفير غطاء سياسي ودبلوماسي يحميها، وهو الاستمرار المتقطع لـ«عملية السلام». لكن تحت ستار ومظلة جولات المفاوضات العقيمة تضاعف الاستيطان، عدداً وحجماً، إلى ثلاثة أضعاف منذ التوقيع على أوسلو. وخلالها أيضا نجح التنسيق الأمني في تفريغ الضفة الغربية من المقاومة وأنتج أجيالا خاضعة لأجهزة الأمن الفلسطيني التي نجحت إسرائيل في تجيير كل أعمالها لتعزيز «الاستقرار والهدوء» الذي حيَد الضفة الغربية من معادلة الصراع مع إسرائيل. حتى المقاومة السلمية وغير العسكرية تم ضبط إيقاعها والسيطرة عليها حتى لا تتسع. وبالتوازي مع ذلك استمر الانقسام الفلسطيني الذي خدم إسرائيل خدمة جليلة، وعملت هي بدورها على ترسيخه واستثماره. والسعار الإسرائيلي الذي تبع المصالحة الفلسطينية كان سببه أن ركيزة أساسية من ركائز «الأمر الواقع» الذي ترتاح إسرائيل فوقه قد بدأت تهتز وهي في طريقها للانهيار. وحرب الإبادة الوحشية التي أطلقتها إسرائيل ضد قطاع غزة هدفها الأساسي العودة بالأمور إلى «الأمر الواقع».
كسر «الأمر الواقع» معناه إجبار إسرائيل وداعميها الغربيين والعالم على مواجهة القضية الفلسطينية مرة أخرى، ودفعهم، وخاصة إسرائيل، لمواجهة استحقاقات تفرضها حقوق الفلسطينيين في التحرر الوطني والاستقلال، أو تحويل الأرض كلها إلى دولة واحدة لمواطنيها. يجب أن لا يستمر «الأمر الواقع» الذي هو في جوهره آبارتايد عنصري. وعبر استمرار «الأمر الواقع» فإن إسرائيل تتملص من المواجهة المباشرة مع السؤال عن مصير الفلسطينيين: هل هم شعب تحت الاحتلال؟ هل هم مواطنون من درجات دنيا؟ أم ماذا؟

1