أحدث الأخبار
الأحد 22 كانون أول/ديسمبر 2024
«أبوية الثورات» في الخطاب القومي!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 27.05.2013

في مقدمة الطبعة الثانية لـ«المشروع النهضوي العربي» الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في أغسطس 2011 نقرأ النص الجريء والادعائي التالي: «...المادة هذه مرجعية بكل المقاييس لكل من يروم بناء سياسات في التنمية والأمن وتوزيع الثروة والبناء الديمقراطي... إلخ. ولعله (المشروع النهضوي) يكون بهذا الحسبان أرقى وثيقة في تاريخ الأدب السياسي العربي بعد «الميثاق» الذي صدر في مصر منذ قريب من نصف قرن، مع فارق يحسن بالمرء الانتباه إليه: أن «الميثاق» وضع من قبل سلطة وطنية وفي لحظة مد، فيما وضع «المشروع النهضوي» من موقع مستقل عن أي سلطة، وفي لحظة جزر مديدة». ومرجعية «المشروع النهضوي» وشموليته تتأتيان من تعريفه وبنيته، التي هي أكبر بكثير من أن تُحصر في أن تكون «برنامجاً سياسياً» وحسب، وهذه «مقدمة ابتدائية» يقتضي «التسليم بمنطوقها»، إذ إن «المشروع النهضوي العربي ليس برنامجاً سياسياً جاهزاً للتطبيق والإنفاذ، بحيث يأخذه من يأخذه على هذا المُقتضى ولهذا الغرض، كما أن الذين تداولوا في أمره وصاغوه، ما أرادوه أن يكون بهذا المعنى، ولا وضعوا هندسته لتتناسب وغرض التطبيق البرنامجي، ذلك أن المشروع النهضوي رؤية وتصور فكري- سياسي استراتيجي، والرؤية والتصور غير البرنامج. غير أنه في وسع أي سلطة أو حزب أو تحالف أحزاب حاكم أن ينهل من هذه الرؤية ويأخذ منها مادة برنامجه السياسي، أو أن يسترشد بها في سبيل تحقيق ذلك الهدف».
وهذا الخطاب الأبوي المُدهش على الصعيد الفكري والسياسي يختلف كلياً في نبرته وادعاءاته عن مقدمة الطبعة الأولى الأكثر تواضعاً، والتي تصدرت الكتيب في طبعته الأولى في فبراير 2010. مقدمة الطبعة الثانية مكرسة لتربط «المشروع النهضوي» مع الثورات العربية، ولتطرح علاقة عضوية، إن لم نقل فوقية، معها. وهذه المقدمة المُتعالية ترقى إلى ما يمكن ببساطة اعتباره البرنامج الفكري والسياسي للقوميين العرب وإلى مستوى «الرؤية الفكرية العربية» التي يعمل الجميع تحتها وينهلون منها ما يشاءون، وهي بهذا تختلف جذرياً عن مقدمة الطبعة الأولى الأكثر تواضعاً، والتي تقول: «وها هو (مركز دراسات الوحدة العربية) يطرح «المشروع النهضوي» في صورته النهائية على الأمة، واثقاً من أنه سيكون دافعاً قوياً لنضالها من أجل تجسيد أهدافه الستة في الواقع العربي، وناظماً فعالاً لهذا النضال».
لو وقفت مقدمة الطبعة الثانية عند تلك الحدود التي رسمتها مقدمة الطبعة الأولى للمشروع، وأبقت «المشروع النهضوي» مطروحاً كمحاولة استنهاض للواقع العربي، لكان ذلك أجدر، ولأبقت الفكرة كلها في دائرة الرصانة. بيد أن تطاولها على كل ما عداها لتعتبر نصها «الأرقى» في الفكر العربي المعاصر، ومشروعها هو «المشروع» الذي يجب على العرب أن ينهلوا منه، فهي بذلك تورط ذاتها ونصها طواعية في ادعاءات يصعب الدفاع عنها، وتموضع نفسها ومشروعها في مرمى نيران عليها أن تتحملها! فعندما لا يتردد خطاب ما، أياً كانت سمته السياسية أو لونه الفكري في التجرؤ على ادعاء امتلاك المرجعية والاستعلائية، طارحاً ذاته بكونه «الرؤية» التي ينهل منها الجميع، كل وفق ما يريد، فهو يجمع الشمولية والأبوية في آن معاً. وامتلاك هكذا نزعة يستدعي ويستنفر بطبيعة الحال النقاش والنقد والتفكيك كأي فكرة أو أيديولوجية شمولية. ذلك أن الاستدعاء المبطن والمعلن لدى «المشروع النهضوي» بأنه هو «الحل» يصطف به تلقائياً إلى جانب الأيدلوجيات الشمولية والخَلاصية الأخرى التي تلحق وصف «الحل» بما تعتقده وتريد أن تفرضه على الآخرين.
والطبعة الثانية لـ«المشروع النهضوي» تتميز أيضاً بالإضافات اللافتة في المقدمة وفي العنوان، الذي تم وسمه بعنوان فرعي استطرادي حيث أصبح «المشروع النهضوي العربي: نداء المستقبل». وتعبير «نداء المستقبل» يعكس الرسالة الأساسية التي يريد نص «المشروع النهضوي العربي» في طبعة ما بعد الثورات العربية النطق بها، وهي أنه النص «المشروعي» الوحيد المُحكم الذي يمكنه ملء الفراغ الفكري والرؤيوي الذي تعاني منه الثورات العربية، وحيث نقرأ بوضوح الإعلان التالي: «المشروع النهضوي» قد يكون الرؤية الفكرية- السياسية المناسبة التي تحتاجها الثورة وقوى الثورة في هذه اللحظة السياسية الجديدة التي دشنتها جماهير الأمة المنتفضة. وقد لا تجد فيه الثورة كل ما تريد، لكنها -قطعاً- ستجد فيه أكثر ما تريد. وهي لاشك ستجد فيه الكثير، لأن القوى الاجتماعية التي نهضت بعملية التغيير ليست في جملة القوى الاعتيادية التي كانت تنهض بهذا الدور فيما مضى (الأحزاب والحركات السياسية) وتمتلك برنامجاً سياسياً وتصوراً للسلطة وإدارة الدولة، وإنما تملك طاقة هائلة للنقض والتقويض من دون أن تكون ممارستها الثورية مستندة -بالضرورة- إلى برنامج عمل يلحظ لحظة بناء السلطة الجديدة وموجبات ذلك البناء».
ونلاحظ هنا أن نبرة الجزم والحسم في الفقرة السابقة، والتي تقطع بأن الثورة ستجد في «المشروع النهضوي العربي» أكثر ما تريد، قد قوضت البداية الرصينة التي تمسكت بالتواضع والاحتمالية عند القول إن المشروع النهضوي «قد» يكون الرؤية الفكرية- السياسية المناسبة لهذه الثورات. وإضافة إلى ذلك، تتبنى الفقرة وفكرتها المقولة الرخوة السائدة في قراءات الثورات العربية الراهنة، التي تقول إن القوى التي حركت الثورات وأنجحتها قادرة على النقض والهدم (إسقاط الأنظمة) ولكنها غير قادرة على البناء، لأنها لا تملك الرؤية والبرنامج. وهنا ولمواجهة ثغرة عدم القدرة على البناء التي تعاني منها الثورات وقواها، فإن «المشروع النهضوي» يتقدم لسدها.
وينساق استشراف الأبوية الفكرية والسياسية وادعاءاتها في نص مقدمة الطبعة الثانية إلى مدى أكثر جرأة في سياق قراءة انطلاق الثورات العربية ليقرر التالي: «والحق أن إشارات المشروع النهضوي -ومن دون اعتساف في تأويل النص- تتوافق إلى حد بعيد والحقائق التي أفرجت عنها عملية الثورة، فإلى أن التئام الإرادات حصل بين الإسلاميين والقوميين واليساريين والليبراليين في ساحات تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا أثناء الثورة، فسهل ميلاد عملية التغيير في بعضها، ودفع في بعضها الآخر إلى فرض خيار الإصلاح السياسي والدستوري... فإن وقائع الثورة أقامت دليلاً جديداً على أن تلك السيولة في الاجتماع السياسي العربي أنجبت قوى جديدة تقف على رأسها فئة الشباب...». في هذه الفقرة هناك فعلاً «اعتساف في النص» على رغم التحذير منه والوعي به، ذلك أن دينامية أي ثورة في التاريخ ضد نظام مستبد وفاسد تستجمع بالضرورة كل أطياف المعارضة السياسية له، وليس هناك حاجة إلى عبقرية من نوع خاص، لا من المشروع النهضوي أو من غيره، للوقوف على بروز «الالتئام» العفوي على مربع الثورة على النظام. ولكن المهم هو ما بعد الثورة، حيث شواهد التاريخ تدلنا أيضاً على أن ذلك الالتئام سرعان ما يتذرّى وتبدأ مرحلة جديدة تصطرع فيها قوى الثورة فيما بينها، وهي المرحلة الأعقد والأصعب والتي يتركنا فيها «المشروع النهضوي» حائراً مثلنا، على رغم المقولات الفضفاضة عن «الكتلة التاريخية» التي لا يقول لنا كيف تتحقق ونحن نواجه تمزقاً إلى كتل طائفية وربما جغرافية أيضاً.

1