تونس - أثارت قضية مقتل التونسية وفاء السبيعي حرقا على يد زوجها ضجة وغضبا لدى الرأي العام في البلاد، لتطلق منظمات نسوية وحقوقية صيحة فزع إزاء تنامي ظاهرة العنف الزوجي.
وأعادت جريمة مقتل وفاء بمدينة الكاف (شمال غرب) في 29 أكتوبر إلى الأذهان مقتل رفقة الشارني بطلق ناري على يد زوجها في مايو 2021.وغزا اسم وفاء السبيعي مواقع التواصل الاجتماعي في تونس، وارتبط بهاشتاغ لمناهضة العنف ضد المرأة، وسط دعوات تطالب بوضع نهاية لهذه الظاهرة.
وكلفت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن أخصائيا نفسيا بمتابعة أطفال الضحية وفاء، فيما أطلقت جمعيات نسوية ونشطاء حقوقيون صرخة فزع، وأبدوا مخاوف من حدوث المزيد من الجرائم “البشعة”، مستنكرين ما يعتبرونه “صمت السلطات المعنية” و”الإفلات من العقاب”.
وكانت تونس من بين أبرز البلدان الرائدة في مجال حقوق المرأة، لكن هاتان الجريمتان تدفعان المتابع إلى التساؤل عمّا إذا كانت الترسانة القانونية كافية للقضاء على ظاهرة العنف ضد المرأة، لاسيما داخل الأسرة؟
وكشف المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة (حكومي) أن 75 في المئة من إجمالي حالات العنف المسلط ضد المرأة، والتي قام برصدها من يناير حتى 30 سبتمبر 2021، صادرة عن “عنف زوجي”. وقال إن “الزوج هو المتّهم الأول بممارسة العنف ضد المرأة، إذ يكون هو في الغالب المعتدي على الضحية المشتكية”.
وأشارت أول دراسة علميّة أعدها المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة، تحت عنوان “محدّدات العنف الزوجي”، إلى أنّ العنف الجسدي هو أكثر أشكال العنف المسلط على النساء من قبل أزواجهن، يليه العنف النفسيّ.
وقامت الدراسة، التي تم إنجازها بدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان، في أبريل الماضي بتحليل 53 حكما قضائيّا كعيّنة من الأحكام الصادرة في مجال العنف الزوجي، إلى جانب إجراء مقابلات مع 20 امرأة تعرضن للعنف الزوجي وتتراوح أعمارهن بين 25 و64 سنة، ومع 10 رجال عنفوا زوجاتهم وتتراوح أعمارهم بين 34 و67 سنة، وذلك لمعرفة أشكال العنف الزوجي وملمح الضحية والقائم بالعنف، وأسباب هذا العنف وتداعياته. وبينت الدراسة أنّه غالبا ما يُسلَّط على الضحايا عنف جسديّ مصحوب بعنف نفسيّ، كما يُرتكب العنف ضد الزوجات في نهاية النهار مما يضطر الضحية إلى مغادرة منزل الزوجية ليلا.
وكشفت المقابلات مع النساء المعنَّفات أنّ القائم بالعنف غالبا ما يكرّر الفعل، وهو ما يجبر المرأة على العودة إلى منزل الزوجية بعد تعنيفها والعيش تحت وطأة الإهانة والضرب. وأشارت هذه المقابلات إلى عدم علم هؤلاء المعنَّفات بالقانون عدد 58 لسنة 2017 الذي يجرّم العنف بمختلف أنواعه من كلا الطرفين. أمّا بخصوص القائمين بالعنف فقد توصلت الدراسة إلى أنّهم يعتبرون العنف الأسري مسألة خاصة لا يحق لأحد التدخل فيها، ويتمسكون بسلوكاتهم العنيفة مجسّدين بذلك عقلية الهيمنة الذّكوريّة وموروثا اجتماعيا مطبّعا مع العنف.
وكشفت الدراسة بعض الصعوبات التي تعوق إنفاذ القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 للقضاء على العنف ضد المرأة، بما يستدعي المزيد من دعم آليات ومسالك المتابعة والتنفيذ على المستويين الأمني والقضائي.
وخلصت دراسة محددات العنف الزوجي إلى أنّ ظاهرة العنف الأسري مشكلة اجتماعية معقّدة ومتجذّرة في المجتمع التونسي لأسباب عديدة ومتنوعة، مما يجعل منزل الزوجية بالنسبة إلى العديد من النساء فضاء غير آمن.
وعرضت الدراسة تعريفا شاملا لمفهوم العنف وأنماطه، ومن أبرز هذه الأنماط العنف الزوجي، كما قدمت قراءة في تناول هذا الموضوع ضمن مختلف المؤتمرات الدولية لأهميته.
وأكدت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السنّ أن هذه الدراسة تدرج في إطار تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لمقاومة العنف ضدّ المرأة؛ إذ لم يكن اختيار موضوع العنف الزوجي اعتباطيا، وإنما ارتكز على إحصائيات الخط الأخضر للتبليغ عن حالات العنف ضد المرأة 1899، والتي أبانت ارتفاعا في ظاهرة العنف الزوجي، حيث فاق عدد المكالمات المتعلقة بالإشعارات حول العنف الزوجي نسبة 75 في المئة.
وستكون نتائج دراسة محددات العنف الزوجي، التي أنجزها المرصد كآليّة علميّة لوزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن، منطلقا لتنفيذ برامج توعوية وإجراءات عملية بالتعاون مع مختلف الأطراف المتدخّلة للقضاء على ظاهرة العنف في الفضاء الأسري باعتبار أن تأثيره يتجاوز الأسرة ليلقي بتداعياته على المجتمع بأسره.
يذكر أن هذه الدراسة العلمية اعتمدت على منهجيّة متعدّدة المقاربات جمعت بين التّحديد العلمي للمفاهيم ذات الصّلة بالظاهرة، من تعريف للمصطلحات وتقديم للمعطيات المتوفرة حول العنف الزوجيّ، وبين التحليل السوسيولوجي والقانوني والبسيكولوجي.
وقالت رئيسة جمعية النساء الديمقراطيات بتونس (مستقلة) نائلة الزغلامي إن “العنف ضدّ النساء أصبح ممنهجا”. واعتبرت أن “الدولة لا تتحمل مسؤولياتها، ولم تضع إستراتيجيات وخططا لحماية النساء، بل هي في صمت تام أمام قضية إفلات من يمارسون العنف ضد المرأة من العقاب”.
ظاهرة العنف الأسري مشكلة اجتماعية معقّدة ومتجذّرة في المجتمع التونسي لأسباب عديدة ومتنوعة
وزادت “لا نريد أن تصل الأمور إلى حد مقتل عدد من النساء حتى تعي الدولة مسؤولياتها وتتكفل برعاية الأطفال فيما بعد”.ودعت السلطات المعنية إلى “تفعيل القانون 58 لسنة 2017، المتعلق بمناهضة العنف ضد المرأة، بين جميع الوزارات، مع ضرورة وضع خطة وإستراتيجية لمكافحة العنف والإفلات من العقاب”.
وهذا القانون يهدف إلى وضع تدابير للقضاء على كل أشكال العنف ضد المرأة القائم على التمييز بين الجنسين، لتحقيق المساواة واحترام كرامة الإنسان، وذلك باتباع مقاربة شاملة تقوم على التصدي لمختلف أشكال هذا العنف بالوقاية وتتبع مرتكبيه ومعاقبتهم وحماية ورعاية الضحايا.وأضافت نائلة أن “القوات الحاملة للسلاح أصبحت اليوم تستعمله لتصفية حسابات داخل العائلة وقتل النساء، وهو ما شهدناه في قضية رفقة الشارني (زوجها رجل أمن)”.وأردفت “سننظم تحركا احتجاجيا السبت (اليوم 5 نوفمبر) أمام مندوبية المرأة (تابعة لوزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن) في ولاية (محافظة) الكاف لإماطة اللثام عن ظاهرة العنف ضد المرأة”.
وبشأن أسباب تنامي هذه الظاهرة قالت إن “الأزمة الاقتصادية وتراجع المقدرة الشرائية وصعوبة الأوضاع جعلت منسوب العنف يرتفع”.واستدركت “لكن ذلك ليس مبررا، فالمرأة أصبحت تتحمل مع الرجل أعباء الحياة وتشتغل وتتحمل المسؤولية في البيت وخارجه، ولا تتلقى مقابل ذلك سوى العنف إلى درجة قتلها أحيانا”.واعتبرت نائلة أن “المقاربة القانونية غير كافية، ولا بد من مقاربات اجتماعية وثقافية ووضع إستراتيجية كاملة”.وأفادت بأن “عدد النساء اللاتي قتلن على أيادي أزواجهن بلغ 12 خلال سنة ونصف السنة”.
إفلات من العقاب
المرأة أصبحت تتحمل مع الرجل أعباء الحياة وتشتغل وتتحمل المسؤولية في البيت وخارجه، ولا تتلقى مقابل ذلك سوى العنف إلى درجة قتلها أحيانا
المرأة أصبحت تتحمل مع الرجل أعباء الحياة وتشتغل وتتحمل المسؤولية في البيت وخارجه، ولا تتلقى مقابل ذلك سوى العنف إلى درجة قتلها أحيانا
من جهته شدد متحدث المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (مستقل) رمضان بن عمر على أن “ظاهرة العنف الزوجي أضحت متكررة في تونس”.
وأضاف بن عمر أنه “عندما يتعلق الأمر بطرف (زوج) من المؤسسة الأمنية فإنه يتم تكريس سياسة الإفلات من العقاب”.
وتابع “ذلك جزء من العوامل التي تدفع إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم، فهناك من يتحصن بصفاته الأمنية والإدارية لمحاولة الإفلات من العقاب، ما يشجع آخرين على التمادي في العنف ضد النساء”.
وزاد بأن “ظاهرة العنف انتشرت في الفضاء العام وعلى الشبكات الافتراضية، كما أن فصوله كبيرة حتى على مستوى المؤسسات السياسية التي كانت موجودة في البلاد”.
وأكد أن “ظاهرة العنف استفحلت بشكل كبير ومعالجتها لا تكون قضائية وأمنية فقط رغم أن الجانب الزجري مهم جدا”.
ودعا بن عمر إلى إيجاد “معالجات أكثر عمقا تدمج الجانب الثقافي والتربوي، علاوة على التربية على حقوق الإنسان واحترام كرامة المواطن وعدم ترسيخ سياسة الإفلات من العقاب على جرائم أصبحت تستهدف الفئات الأكثر هشاشة”. وتابع أنه “يتم اليوم الالتفاف على القوانين، والإشكال يكمن في (غياب) إرادة تطبيقها على الجميع بالطريقة نفسها”.
وختم بقوله “توجد فئات مالية واقتصادية وأمنية تعتبر نفسها فوق القانون، وترى أن كل القوانين في خدمتها، إما لمراكمة الثروة بطرق غير مشروعة أو للإفلات من العقاب”.
يذكر أن وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن آمال بلحاج موسى سبق أن قالت “عدد إشعارات النساء التّونسيات اللاتي تعرضن للعنف عام 2021 تراجع إلى أكثر من النصف ليكون 7588 إشعارًا مقارنة بـ15000 إشعار في عام 2020”.
وأضافت “هناك جهود كبيرة لتقليص هذه الظاهرة، حماية للمرأة وتكريسا لأهمية الوقاية من العنف ضدها”. وتابعت “في نصف السنة الأولى من العام الجاري سجلنا نحو 3100 إشعار عنف ضد المرأة”. وأردفت بلحاج “لا نريد أن تكون الأرقام فقط هي المهمة، بل نبحث عن تعزيز آليات الوقاية”.
ترسانة من القوانين لا تحمي نساء تونس من العنف الزوجي!!
بقلم : الديار ... 07.11.2022