أحدث الأخبار
السبت 04 أيار/مايو 2024
«الجدار الحديدي».. والإرادة الفلسطينية!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 15.07.2014

«الفلسطينيون متخلفون عنا ثقافياً بـ500 سنة، وروحياً لا يمتلكون الصلابة ولا الصمود الذي نملكه... (ومع ذلك) فإن كل شعب أصيل سيقاوم أي مستوطنين أغراب طالما يرى فسحة أمل في إنهاء الخطر القادم مع الاستيطان الأجنبي. وهذا ما يفعله عرب فلسطين وما سيواصلون فعله طالما بقي لهم أي بصيص أمل في الحيلولة دون تحويل فلسطين إلى أرض إسرائيل».
هذا الخطاب الخليط من العنصرية والتعالي والإدراك أيضاً لما سيكون عليه موقف الفلسطينيين من المشروع الصهيوني، هو بعض مما كان قد قاله فلاديمير جابوتنسكي، أحد غلاة المنظّرين الصهاينة، ومؤسس الحركة التصحيحية اليهودية، قبل قيام دولة إسرائيل في مقال نشره في نوفمبر 1923. وجابوتنسكي كان يجادل ضد بعض الأصوات الصهيونية «المعتدلة» التي كانت ترى ضرورة الوصول إلى اتفاق مع الفلسطينيين حول الهجرة اليهودية وحول الوجود اليهودي المتعاظم في فلسطين. وقد وصف جابوتنسكي تلك الأصوات بأنها ساذجة وبأن عليها أن تغادر الفكرة الصهيونية إنْ لم تتحمل رؤية الصهيونية وهي تتحقق على الأرض بالقوة والجبروت وعلى الرغم من أنف سكان البلاد المحليين. وكان يرى أن أرض إسرائيل تمتد على ضفتي نهر الأردن ويكرر «هذه الضفة لنا، وتلك الضفة لنا أيضاً»، وقد رفض بشدة توصية لجنة «بيل» بالتقسيم سنة 1947. وعلى أفكار جابوتنسكي تربى والد نتنياهو الذي عمل سكرتيراً خاصاً له، ومن مدرسة جابوتنسكي تخرج عتاة القادة الإسرائيليين من اليمين إلى اليسار، من مناحيم بيغن وشارون إلى إسحاق رابين وإيهود باراك.
وفي المقال نفسه المذكور والشهير، تابع المنظر الصهيوني توضيح أفكاره قائلاً «...لا نستطيع أن نعِد عرب إسرائيل أو في البلدان العربية بأي شيء، ذلك أن موافقتهم الطوعية (على المشروع الصهيوني) غير واردة. لذلك فعلى الذين يحملون فكرة أن اتفاقاً مع السكان الأصليين هو شرط جوهري للصهيونية أن يقولوا «لا» ثم يتركوا الصهيونية. الاستعمار الصهيوني، حتى في أكثر صوره محدودية، يجب إما أن ينتهي وإما أن يتواصل على الضد من رغبة السكان المحليين. ولهذا فليس ثمة طريقة لهذا الاستعمار كي يتواصل ويتحقق إلا بالقوة -بجدار حديدي لا يتمكن السكان المحليون من اختراقه. وهذه سياستنا تجاه العرب أيضاً... بعضنا يفضل أن يقوم هذا الجدار بحراب يهودية، وبعضنا الآخر يقترح حرباً بريطانية، وبعض ثالث يقترح أن يكون عبر حراب اتفاق مع بغداد... ولكن المهم أننا جميعاً نريد جداراً حديدياً.
و«الرؤية» التي كان يقترحها جابوتنسكي على الحركة الصهيونية أصبحت في نهاية المطاف هي العمود الفقري للفكر والاستراتيجية الصهيونية الإسرائيلية على مدار عقود طويلة، وكما يثبت المؤرخ «آفي شلايم» في كتابه الشهير بعنوان «الجدار الحديدي». وهي تتلخص في ضرورة إغلاق باب الأمل نهائياً أمام الفلسطينيين وتحطيم إرادتهم كلياً بحيث لا يجدون بديلاً عن الاستسلام والرضوخ لواقع «الجدار الحديدي» الصلب الذي لا يستطيعون هدمه. وآنذاك، أي عندما يتأكد للفلسطينيين أنه لا طريق أمامهم سوى الاستسلام يمكن الوصول إلى توقيع اتفاق معهم، يكون عملياً صك استسلام وبحسب الشروط والإملاءات الصهيونية. ولذلك، فإن أي شكل من أشكال مقاومة المشروع الصهيوني ورفضه والوقوف في وجهه يجب أن يضرب بكل قسوة ممكنة وتتم تسويته بالأرض، لأن ذلك هو الطريق الوحيد الذي يمهد لظافرية فكرة واستراتيجية «الجدار الحديدي».
ويمكننا قراءة كل تاريخ إسرائيل العدواني والتوسعي من زاوية نظرية «الجدار الحديدي» الذي يريد أن يدمي رؤوس الفلسطينيين والعرب وهم يحاولون تدميره. ولنظرية «الجدار الحديدي» آليات أخرى تشتغل على مستويات متعددة متعلقة بالداخل الإسرائيلي ومكوناته الصهيونية، وأهمها «إبقاء النيران متقدة» كما كان يقول جابوتنسكي. ومعنى ذلك الإبقاء الدائم على حالة التوتر والحرب والتيقظ وتصوير الحياة اليومية الصهيونية بكونها تحفز للحرب والدفاع ضد «الأغيار» الذين يحتشدون وراء «الجدار الحديدي» ويريدون أن يفترسوا إسرائيل واليهود. ومن دون هذه السيكولوجيا التخويفية والاستعدائية، فإن مخاطر الترهل والتساهل قد تبدأ في السريان في «الصف الصهيوني». ولهذا وبسبب هذا التخوف، فإن جانباً لا يُستهان به من الفكر الصهيوني اللاحق، أي بعد تأسيس الدولة العبرية، وحتى الآن، وعلى رغم قوتها وجبروتها، لا يزال يقف جوهرياً وفلسفياً ضد فكرة «السلام مع العرب والفلسطينيين». فمثل هذا السلام حتى لو كان بحسب الشروط الصهيونية وبحسب طموحات ورؤية جابوتنسكي، سينهي سمات التيقظ والتحفز للحرب والجاهزية ضد «الأغيار»، ويفتح الأبواب للدعة والترهل والاسترخاء. وبحسب هذه النظرة، فإن معنى بقاء إسرائيل مرتبط عضوياً بفكرة إبقاء الخوف من الخطر الوجودي عليها، الحقيقي أو المتخيل، متقدة نصب أعين كل اليهود.
حرب نتنياهو على غزة هذه الأيام هي الإعادة الدورية لإنتاج «الجدار الحديدي» الذي أسسه جابوتنسكي. ورسالتها هي الرسالة القديمة ذاتها، ولكن التي أصابها التوتر والهشاشة على مدار العقود: على الفلسطينيين أن يرضخوا وحسب، وليس أمامهم أي خيار سوى القبول بالاستسلام. والتوتر الذي صارت تتميز به رسالة واستراتيجية «الجدار الحديدي» هو أن إرادة الفلسطينيين ومنذ أن بشّر جابوتنسكي برؤيته سنة 1923 لم تهن ولم تنكسر على رغم كل الهزائم، والخذلان العربي، والتضحيات، وما قد يتبدى من انسداد في الأفق. ولم تستطع إسرائيل بكل جبروتها العاتي، وبكل الدعم الغربي والأميركي الذي تعتاش عليه، أن تكسر الإرادة الكلية للفلسطينيين وأن توقف مقاومتهم. صحيح أن الأكلاف الفلسطينية الحالية وككل مرة تكون باهظة لأن البطش الإسرائيلي وآلة الحرب العمياء النازية لا ترحم وتريد أن تذل الفلسطينيين وتسكتهم، ولكن في الصورة التاريخية والأعم، فإن جدار إسرائيل الحديدي هو الذي يتهشم. وكما أن خيارات الفلسطينيين محدودة بعد أن أرادت إسرائيل منهم أن يوافقوا على توسيع الاستيطان ولا يعترضوا، وعلى تهويد القدس ولا يعترضوا، وعلى التنسيق الأمني ولا يعترضوا، فإن خيارات إسرائيل هي الأخرى محدودة. عوض أن يترسخ «الجدار الحديدي» بعد كل جولة حربية تنخرط فيها إسرائيل وقادتها المهووسون بتتبع أبيهم الروحي الموغل في التطرف والعنصرية، فإن ذلك الجدار يتهشم أكثر فأكثر.

1