تفترق فكرة الحداثة عن جميع الأفكار الأخرى في أنها ولّدت آلية النقد الذاتي الذي أصبح جوهرها الموجّه لها. في بداياتها الأولى وثورتها على السلطة والمجتمع التقليديين القائمين على خليط السيطرة والاستغلال الذي أنتجته قرون التحالف بين الإقطاع والدين، قدمت الحداثة طرحاً ثورياً تحررياً ولكنه كان مؤدلجاً وخلاصياً. أي أنها اعتقدت أنها «الحل» الخلاصي للإنسانية الذي يحررها من قيود التقليد والميتافيزيقا والدين والاستغلال. وبذلك فإنها طرحت نفسها، بوعي أو بدونه، بديلاً إيديولوجياً في ميدان الإيديولوجيات الخلاصية، والتي كان كل منها يضع نهاية سعيدة للكون والبشر، ويريد حشر مسيرة التاريخ والمستقبل لتسير وفق تلك النهاية. وكما كان الدين يرسم مساراً خاصاً للإنسانية ونهاية محددة، جاءت الحداثة لتقوم بالشيء ذاته وتتورط في المنهج الخلاصي نفسه، ولكن مع تغيير في الطريق وفي شكل النهاية المفترضة. بمعنى ما، أصبحت الحداثة «الصارمة والتقليدية» القائمة على جبروت العقل والعلم والانعتاق ديناً جديداً وإيديولوجيا تنافس الأديان والأيديولوجيات القائمة.
لكن الفصل المثير في قصة الحداثة يكمن في توليد طاقة النقد الذاتي، ذلك أنها وباعتمادها على العقل اكتشفت خطل تموضعها على مسار الإيديولوجيات التي تعتقد في ذاتها معرفة المسار الخفي للبشرية وقانون الطبيعة وترسم تبعاً لذلك «خطة» لأيلولة الإنسانية والكون. نقدت الحداثة نفسها وتحررت من شكلها الإيديولوجي، ذلك أن الإيديولوجيا وكما وصفها ماكس هوركهايمر أحد رواد مدرسة فرانكفورت النقدية هي العقبة الأساسية في طريق الانعتاق الإنساني. والتحرر الذي حدث للحداثة من التورط في أدلجة لا انفكاك منها تم بفضيلة النقد والمنطق والعقل وهي القيم الجوهرية للتنوير والثورة على التقليد. وفي قلب الحداثة تأسست تدريجياً مدرسة نقد الحداثة، التي كان هوركهايمر أحد أهم فلاسفتها. وقد انتبه هوركهايمر إلى الديالكتيك الخطير الذي انزلقت إليه المجتمعات الحديثة التي من المفترض أن تكون نتاج عملية التحرير الكبير الذي قادته الحداثة وأخرجت به هذه المجتمعات (وخاصة الغربية) من غيبوبة التقليد وتحالف سلطات الدين والمجهول والإقطاع عليها. لقد تحررت هذه المجتمعات من قيود تقليدية ما قبل حداثية، ولكنها سرعان ما ورطت نفسها طائعة في قيود جديدة وعبوديات حداثية. وقد التقط هوركهايمر هذه السيرورة مبكراً جداً في أربعينات القرن العشرين، في كتابه «تجاوز العقل»، واصفاً إياها بما يلي: «... بعد أن ساعدنا العلم على تخليص أنفسنا من الرهبة من المجهول في الطبيعة، ها نحن الآن نصبح عبيداً للضغوط الاجتماعية التي صنعناها نحن. فإزاء الدعوة كي نكون فاعلين مستقلين، نتوق عوض ذلك للالتحاق بالنظم، والأنماط والسلطات. وإذا كانت الاستنارة والتقدم العقلي تعني تحرير الإنسان من المعتقدات الخرافية في القوى الشريرة والأساطير والقدر الأعمى، أو باختصار تحريره من الخوف، فإن نقد ما يسمى اليوم بالمنطق هو أكبر خدمة يمكن للمنطق أن يقدمها».
وقعت المجتمعات الحديثة في أسر أنماط الحياة والسلوك والاقتصاد والسياسة والتنظيم الصارم الذي جاءت به الحداثة، وجاءت به أصلاً للتمرد على فوضى وخوف ولاعقلانية المجتمعات ما قبل الحديثة. وهكذا فقد حررت المجتمعات من قيود الخرافات حيث كان الأفراد يخضعون لإملاءات ميتافيزيقية غير مباشرة وسلطوية مباشرة، ولكنها أخضعتهم لقيود الحياة الحديثة وبرنامجها المنضبط الذي يحدد حياة الأفراد ويرسم لهم التوقعات والمسارات التي من المفترض أن يسيروا فيها. وعلى هذا الضبط الصارم والتنميط الجماعي للأفراد ثارت مدرسة نقد الحداثة، واشتغلت أولاً على خلق هوامش للحرية والانعتاق والتمرد على جوانب الحداثة وتمثلاتها المختلفة في الحياة، ثم لاحقاً وهو الأهم على نقل تلك الهوامش لتصبح في «المجال العام» للحداثة ذاتها، وتمييع ما هو تنميطي فيها أو إضعافه. وتجلت انعكسات تلك الإزاحة بالغة الأهمية في ازدياد التمرد ما بعد الحداثي على التنميط الحداثي نفسه، في مجالات الفن والأدب والإعلام والعمارة، ثم توسعت لتشمل مقاربات عديدة في العلوم الاجتماعية وصولاً إلى السياسة والاقتصاد في «سياسة ما بعد الحداثة».
وهكذا خلقت الحداثة ذاتها وعبر آلية النقد التي استبطنتها جوهرياً «ما بعدها» الخاص بها... «ما بعد الحداثة». ولكن هذه «المابعدية» لم تنقض العملية الأم، الحداثة، ولكنها قامت بدور بالغ الأهمية وشبه فريد في تاريخ الأفكار وهو طرح الأسئلة الصعبة والمتفجرة وإلقاؤها في حضن الحداثة، التي تنشغل في إيجاد الرد عليها عن طريق تصويب مساراتها المتعرجة والمتعددة دائماً. ولكن ما الجديد في هذه السيرورة، أي أن تنتج فكرة ما وليدها الناقد الذي يصحح بعض جوانبها؟ فهذه السيرورة موجودة في كل الأفكار وحتى في الأديان حيث شهدت كبرياتها حركات قامت على النقد والإصلاح الديني؟ والفرق الكبير في حالة الحداثة وما بعد الحداثة هو أن النقد لم يكن مقيداً بحدود الفكرة الأم ولم يحترمها ولم يقدسها. وما بعد الحداثة لم تحاول نقد الحداثة وحسب بل ونقضها. ومن هنا فإن التميز وربما الانفراد التاريخي الذي جاءت به الحداثة ووليدتها يكمن في هذه النقطة بالضبط، وهي انعتاق النقد وآليته من دون حدود، وإلى درجة النقض الكلياني للفكرة المؤسسة. وبسبب لا محدودية هذا النقد وشراسته في كثير من الأحيان فإن الفكرة الأم صارت دائمة الاستنفار للانخراط في عملية تصويب مستديمة لذاتها وتجسيداتها في الواقع. وبكلمة أخرى، فقد أنتجت الحداثة آلية داخلية شبه نادرة وتميزها عن أية فكرة أخرى تتمثل في التصويب الذاتي المستديم الذي يسير يداً بيد مع الفكرة وتطبيقاتها، ولا يقف على الهامش أو يستخدم ظرفياً أو تظاهرياً. والنقد الذاتي الحداثي وما بعد الحداثي للحداثة صار جوهرها ومحركها الأساس، ولهذا ظلت تتجدد وظلت محافظة على بريقها. ويأتي بريقها الأهم من عدم ادعائها بأنها تمثل الحل الخلاصي لأي مجتمع من المجتمعات، وبكونها قطعت من زمن طويل مع بداياتها الأيديولوجية، والنظريات الخطية التي سيطرت على عقول كثيرين في الحقبة الكولونيالية، حيث أرادوا جلب العالم المتخلف إلى أنوار الحداثة التي هي وحدها الحل وهي وحدها التي ستخلصهم من تخلفهم حتى رغماً عنهم!
تنجح أي فكرة أو سيرورة أو سياسة وتستديم بالقدر الذي تتبنى فيه النقد الذاتي، لأن هذا النقد هو الآلية الوحيدة التي تضمن التصويب المستمر للأخطاء وتعيد مقاربة الأشياء بالشكل الأكثر قرباً لما هو مفترض ومتوقع من فاعلية للوصول إلى ما هو مرغوب من أهداف.
الحداثة وعبقرية النقد الذاتي!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 04.11.2013