نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالا لسارة إي باركنسون، قالت فيه إنه من أجل معرفة ما ينتظرنا في غزة، فعلينا النظر للخلف إلى غزو لبنان عام 1982.
وأشارت الأستاذة المساعدة في العلوم السياسية والدراسات الدولية بجامعة جونز هوبكنز، إلى قصة مخيم الشهداء، الذي كان قريبا من الحدود اللبنانية مع إسرائيل، وهو مخيم كان مزودا بخدمات اجتماعية، وكان مركزا لتجنيد المقاتلين أنشأته المنظمات الفلسطينية.
ولهذا كان المخيم على رأس قائمة القوات الإسرائيلية عندما اجتاحت لبنان. وفي البداية، حاصرت الميليشيات اللبنانية المتعاونة مع إسرائيل المخيم، وبعد ذلك وصلت عدة دبابات تابعة للجيش الإسرائيلي. وبحسب شهود العيان، فقد أطلقت الدبابات الإسرائيلية قنابلها على سلالم البنايات، وبخاصة أضعف النقاط فيها من أجل تدمير مخارج الهروب. وضربت قنبلة مركزا اجتماعيا لجأ إليه 96 شخصا ولم ينج منهم سوى اثنين.
وقد صمد المقاتلون الفلسطينيون ثلاثة أيام ونصف اليوم، وبعدها استخدم الجيش الإسرائيلي الفوسفور الأبيض لإخضاعهم. ويتذكر الناجون الغيوم التي تركها السلاح الكيماوي في الهواء إلى جانب الحفر السوداء على بشرة الناس. وبحسب قادة المخيم، قُتل الهجوم 2600 شخص من بين 16 ألف مقيم فيه.
وربما كان الهجوم هذا مشهدا من العملية العسكرية الإسرائيلية التي استُخدمت فيها الغارات الجوية والقصف المدفعي. وبحسب منظمات حقوق الإنسان، تستخدم إسرائيل الآن الفوسفور الأبيض ضد المدن والمخيمات في قطاع غزة. لكن المعركة التي حدثت قبل 41 عاما في مخيم برج الشمالي، الاسم السابق لمخيم الشهداء، كانت أول معركة شوارع أثناء غزو لبنان عام 1982.
وكان الهدف الرئيسي من الحرب الإسرائيلية هو تدمير المنظمات الفلسطينية في لبنان، ومنها فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرهما. لكن إسرائيل كان لديها طموحات أخرى وهي تستهدف القوة العسكرية الفلسطينية، فقد كانت تريد خلق منطقة عازلة وإنهاء الوجود السوري في لبنان، وتنصيب حكومة مسيحية صديقة في بيروت.
وتقول الباحثة إن التشابه بين العملية في غزة وغزو لبنان يذهب أبعد من التكتيكات. فكلا الهجومين بدءا بعد هجوم فلسطيني صادم. ومثل الماضي كما الآن، فقد اختارت الحكومة الصقورية في إسرائيل أقصى رد. وفي الماضي والآن، حدثت كل المعارك في الشوارع والمناطق ذات الكثافة السكانية، حيث انغمس المقاتلون بين المدنيين. واليوم كما في الماضي، استخدمت القوات الإسرائيلية قوة غير متناسبة.
ولا تقدم هذه المقارنة عزاء، فلو كان لبنان الدليل، فحرب إسرائيل في غزة ستنتهي بشكل سيئ لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين.
ورغم تفوقها العسكري، فلم تنجح إسرائيل أبدا في القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية. وبدلا من ذلك، فقد كان الإنجاز الرئيسي لها هو قتل عشرات الآلاف من المدنيين، وتفكيك الجماعات الفلسطينية إلى خلايا قضت سنوات بملاحقتها، وعملت على صعود حزب الله وخسرت أكثر من ألف إسرائيلي في الاحتلال الذي امتد حتى عام 2000.
وهي أشكال تحدث مرة أخرى. وبحلول 12 تشرين الثاني/ نوفمبر عندما قطعت إسرائيل الاتصالات عن مستشفيات غزة، بلغ عدد الضحايا أكثر من 11000 مدني، وهو رقم مرشح للارتفاع.
مع نهاية الحرب الحالية، لن تستطيع إسرائيل القضاء على حماس أو الجهاد الإسلامي. ربما تضعف العملية التنظيمين كما فعلت مع منظمة التحرير عام 1982، لكن الجماعات تعيد خلق نفسها
ومع نهاية الحرب، فلن تستطيع إسرائيل القضاء على حماس أو الجهاد الإسلامي. ربما تضعف العملية التنظيمين كما فعلت مع منظمة التحرير عام 1982، لكن الجماعات تعيد خلق نفسها وتظهر محلها جماعات أخرى، كما حدث مع التنظيمات الإسلامية الفلسطينية في نهاية الثمانينات. وسيكتشف صناع القرار في إسرائيل أمرا كان عليهم معرفته ويعرفه الخبراء منذ سنوات: لا يوجد هناك حل عسكري للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني.
وتشير الكاتبة إلى الوجود الفلسطيني في لبنان بسبب هروب ما بين 100000 – 150000 فلسطيني بعد النكبة التي شردت 700000 فلسطيني عام 1948، وعاش اللاجئون في مخيمات حيث ظلوا في وضع مواطنين من الدرجة الثانية بحكم القوانين اللبنانية. وبعد اتفاق القاهرة عام 1969 الذي نقل إدارة المخيمات من فرع في المخابرات اللبنانية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، عملت وفصائلها على بناء مدارس وعيادات وفرق فنية، وكذا تدريب اللاجئين والمواطنين من المجتمعات اللبنانية المجاورة. وتحول الجنوب إلى قاعدة للمنظمات الفسطينية التي أطلقت قذائف الكاتيوشا على إسرائيل.
وقبل عملية “سلامة الجليل”، أو غزو لبنان عام 1982، قامت القوات الإسرائيلية بعملية أصغر عام 1978 ردا على اختطاف حافلة إلى جانب عمليات كوماندوز فلسطينية واغتيالات. وأدى غزو 1978 إلى تشريد أكثر من 285000 شخص من الجنوب، وقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين.
وكانت عملية سلامة الجليل أوسع وبطموح أكبر من التوغل السابق، وبمدى زمني أقصر. ولكن عندما بدأت العملية، عانت من مشكلة الزحف البطيء، حيث توغل رئيس الأركان رفائيل إيتان ووزير الدفاع أرييل شارون أكثر في الأراضي اللبنانية. واتُهم شارون مثل رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، بمواصلة الحرب خدمة لمصالحه السياسية. وتشبه حكومة الحرب الحالية في إسرائيل، حكومةَ اليمين بزعامة مناحيم بيغن عام 1982.
وتخوض القوات الإسرائيلية معارك في قلب كبرى مدن القطاع بهدف التخلص من حماس، ولكن بدون استراتيجية خروج أو مدى زمني للعملية. وفي لبنان، أدت الإستراتيجية غير الواضحة لمقتل عشرات الآلاف من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين.
في غزة، تدير إسرائيل حصار شاملا، ولكنها لا تهتم بالثمن الإنساني. واعتبر وزير الدفاع يوآف غالانت، أن بلاده تقاتل حيوانات بشرية
وكما هو الحال في حصار غزة اليوم، أمر إيتان وشارون بمحاصرة بيروت وقطع الماء والكهرباء والطعام عن عاصمة يعيش فيها أكثر من 620000 شخص، ولمدة شهر. وفي النهاية، أجبرت إسرائيل منظمة التحرير على الخروج، ولكن بعد مقتل 6775 مواطن في بيروت من بينهم 5000 مدني.
وفي غزة، تدير إسرائيل حصار شاملا، ولكنها لا تهتم بالثمن الإنساني. واعتبر وزير الدفاع يوآف غالانت، أن بلاده تقاتل “حيوانات بشرية” وتتعامل بهذه الطريقة، ويبدو أنه يردد ما قاله إيتان عام 1982 الذي تباهي قائلا إن إسرائيل “عندما ستؤمّن الأرض، فكل ما سيقوم به العرب هو الركض مثل الصراصير المخدرة في زجاجة”. وتجريد إيتان السكان من الإنسانية، يلخص السبب الذي واجه فيه الجيش الإسرائيلي مشاكل في جنوب لبنان.
ولم يتوقع قادة إسرائيل الواثقين بقوتهم، مقاومة شديدة من الفلسطينيين واللبنانيين. فعندما تحركت القوات الإسرائيلية باتجاه الطريق السريع الذي يربط مدن لبنان الرئيسية، واجهت مقاومة شديدة في مناطق فقيرة ومخيمات. ومع انهيار القوات اللبنانية وفرار مقاتلي الفصائل، قاتلت الميليشيات في المخيمات بطريقة أدخلت الإسرائيليين بمستنقع، وقتلت عددا من الضباط. وكمثال على هذه المقاومة، معركة عين الحلوة التي أخّرت تقدم القوات الإسرائيلية ولم تستطع التغلب عليه إلا باستخدام الذخيرة القاتلة والفوسفور الأبيض وتجريف المخيم حتى تواصل التقدم نحو الشمال.
ولم تكن عمليات التدمير والقصف الوسيلة الوحيدة التي لجأ إليها الإسرائيليون، بل الاعتقالات الجماعية للفلسطييين واللبنانيين، أيضا، حيث تم احتجاز 9046 شخص في سجن واحد. لكن هذا الأسلوب لم يساعد، فقد قام المحتجزون بانتفاضات وعمليات هروب من المعتقلات، أما المشردون من النساء والأطفال والكبار في عين الحلوة وغيره، فقد نظموا احتجاجات لفتت انتباه منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة.
ويتكرر المشهد اليوم، فبعد تعاطف دولي مع إسرائيل بسبب هجمات حماس، التفت انتباه العالم للعنف الإسرائيلي في غزة، وما يمارسه المستوطنون بالضفة الغربية وقتلهم للفلسطينيين وتخريب وحرق ممتلكاتهم، بحماية من الجيش الإسرائيلي.
بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982، لم تنته الحرب، وأعاد الناجون تنظيم صفوفهم، وواصلوا الحرب ضد إسرائيل
ونشرت صحف مثل “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” تقارير مطولة عن عنف المستوطنين في الأراضي المحتلة. وهو ما فعلته الميليشيات اللبنانية المتحالفة مع الجيش في صيدا أثناء الغزو، وتحت سمع وبصر القوات الإسرائيلية. وفي الحقيقة، أنتج التحالف مع الميليشيات المسيحية أهم مذبحة في عملية سلامة الجليل.
فبعد اغتيال بشير الجميل في أيلول/ سبتمبر 1982، احتل الجيش الإسرائيلي بيروت الغربية، وحاصر مخيمي صبرا وشاتيلا ومنع الدخول أو الخروج منهما، ولكنه سمح للميليشيات المسيحية التي قتلت على مدى يومين أكثر من ألفي فلسطيني.
وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982، لم تنته الحرب، وأعاد الناجون تنظيم صفوفهم، وشكّلوا خلايا تعمل باستقلالية، وواصلوا الحرب ضد إسرائيل. وفي لبنان، فإن مقاومة إسرائيل أصبحت مشروطة بالسياق المحلي، عبر حزب الله الذي ظهر لإخراج إسرائيل من الجنوب، والحزب الشيوعي اللبناني.
وستنتهي الحرب في غزة من خلال مفاوضات تختلف عن تلك التي حدثت في غزو لبنان الذي يعتبر دولة ذات سيادة بحكومة وجيش. أما غزة، فهي أرض فلسطينية تقول المنظمات الدولية وجماعات حقوق الإنسان إن إسرائيل تحتلها وتمارس عليها مع مصر حصارا منذ 16 عاما. وليس لدى غزة اقتصاد مستقل، ولا تسيطر على مياهها البحرية أو الكهرباء.
لكن النتيجة لن تختلف بالجوهر عن لبنان، فقد قال نتنياهو إن حكومته ستتحكم بالأمن في غزة، وتعاونها مع ميليشيات المستوطنين وكذا الاعتقالات الجماعية، كلها تشير لنفس النتيجة.
ولا أحد يعرف بالضبط عدد ضحايا غزو لبنان ولا عدد الذين ماتوا تحت الأنقاض أو ذُبحوا في صبرا وشاتيلا، لكن الحكومة اللبنانية والمؤسسات الصحية تقدر عدد من قتلوا في عملية سلامة الجليل بحوالي 19085 لبناني وفلسطيني خلال أربعة أشهر، 80% منهم مدنيون. وقدرت منظمة التحرير عدد القتلى بـ49000 مدني، و5300 من المقاتلين.
وربما كانت خسائر إسرائيل أقل، لكن الصدمات النفسية كانت أكبر على الجنود حسب دراسات إسرائيلية. ورغم كل هذه التداعيات، فلا تريد إسرائيل الموافقة على وقف إطلاق النار في غزة، بزعم أن هذا سيكون انتصارا لحماس. وهذا تضليلن لأن الرابحين من وقف إطلاق النار هم المدنيون ودعاة اللاعنف والحقوق المتساوية للفلسطينيين والإسرائيليين، أما الخاسرون فهم حماس والمتطرفون الإسرائيليون.
وترى الكاتبة أنه إدارة بايدن قد تلعب دورا في وقف الحرب وتمنع تحولها إلى كارثة إنسانية.
على بايدن استخدام تأثيره، لأن وقف إطلاق النار هو الخيار الأخلاقي والمنطقي إن أرادت أمريكا أن تظل وسيطا محترما في المنطقة. أما البديل، فهو الحكم على أهل غزة بالموت
وربما يتبع بايدن نهج الرئيس رونالد ريغان الذي انقسمت إدارته بين من يدعو لانسحاب إسرائيل من لبنان، ومن يدعو إلى انسحاب سوريا ومنظمة التحرير أيضا. لكن مع تطور الوضع الإنساني، قرر البيت الأبيض في تموز/ يوليو 1982 وقف شحنة من القنابل العنقودية إلى إسرائيل، لأن الأخيرة خرقت الاتفاق بعدم استخدامها في المناطق المدنية.
وبعد وابل القذائف الذي أمطر بيروت، اتصل ريغان مع بيغن وطلب وقف القصف. واستخدم لغة عاطفية: “هنا، وعلى شاشاتنا، ليلة بعد ليلةن شاهد شعبنا رموز هذه الحرب… إنها هولوكوست”.
وفي نيسان/ أبريل 1983، أخبر ريغان الرأي العام الأمريكي أن الإدارة أوقفت صفقة طائرات أف-16 لإسرائيل، ولن تُستأنف إلا في حالة انسحاب إسرائيل من لبنان. وهو ما غيّر سلوك القيادة الإسرائيلية.
واليوم، على بايدن استخدام تأثيره، لأن وقف إطلاق النار هو الخيار الأخلاقي والمنطقي إن أرادت أمريكا أن تظل وسيطا محترما في المنطقة. أما البديل، فهو الحكم على أهل غزة بالموت، والكثير منهم يعارضون حماس.
فورين أفيرز: أشباح “سلامة الجليل” في 1982 تلاحق إسرائيل في غزة.. النتيجة واحدة والمدنيون هم الضحايا!!
16.11.2023