أحدث الأخبار
الجمعة 27 كانون أول/ديسمبر 2024
جـــدي والإنجلــــيز

بقلم : د.مصلح كناعنه ... 25.7.06

جـدّي عجوز تجاوز الثمانـين. تجاعـيد وجهه كجبال الجلـيل ووديانه، شعره كقمة جبل الشيخ في أواخر الشتاء، جلده فيه لون أرض البَـطّوف بعد جفاف الغَرَق، وظهره يتردد بيـن انحناءة الشيخوخة إلى أسـفل واستقامة الكرامة التي تحاول أن تبقيه مرفوعا. حيـن يتحدث يتناثر البصاق من بين أسـنانه الخمس، إلا أن حديـثه سلـس طيب يجذبك إلـيه ويستولي على اهتمامك لما فيه من آهـات أسف على ما مضى وتأوهات حزن على أيام كان فيها العالم بألف خـير.
لا أحـد يعرف بدقة كم بلغ جـدي من العمر، لأنه لا أحـد يعرف في أية سنة وُلد. وحين يسـألونه عن ذلك لا يجيب إلا بذكر حادثة هي الوحـيدة التي تعني له شيئا في هذا الموضوع، فيقول: "سنة العـشرة (أي 1910) سجّلوا اسمي في قائمة المتطوعين لجيش الأتراك، وما كانوا يقبلون في هذا الجيش إلا مَن كان يزيـد عمره على 18 سنة."
في مساء يوم من أيام الشـتاء الباردة، وبعد أن انتهينا من تحضير واجباتنا المدرسية لليوم التالي، ذهبتْ أمي إلى المطبخ فحضرت إبريق الشاي ووضعته على الصيـنية مع الفناجين، ثم انتقلنا جميعا كعادتنا في كل ليلة إلى غرفة جـدي لنسهر معه ساعة من الوقت نسلـيه خلالها بشيطناتنا ويسلـينا بحكاياته التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر.
دخلنا علـيه وأغلقنا باب غرفـته وراءنا، فرحب بنا بفرح ظاهر. جلسـتْ أمي على طرف الجاعد إلى جانبه، أما نحن فقعدنا على الطراريح المفروشة حول كانون النار وأكفنا تلتقي فوق الجمرات المتوهجة. وبعد أن صبـت أمي الشاي وفرّقت علينا الفناجين، التفتَ إليّ جـدي وقال لي بصوته البطيء:
- أنت لا تعجبني يا حافظ.
- لماذا يا جـدي؟
- لأنك آخر ولد يذهب إلى المدرسة. لماذا تتأخر في النوم؟
- لأني أتأخر في السهرة.
- حكي فارغ. لما كنت في جيلك كنت أفيق قبل تَسبيحة الخطيب فأسُوق الحمير قدامي وأرجُـد من البطوف ثلاث نقلات، وقبل الضحى أكون قد ركـبت اللوح على البـيدر.
وتدخلت أمي قائلة:
- زمانهم غير زمانك يا أبي. هل تريد من حافظ أن يَرُجد من البطوف ويَدرُس القمح علي البـيدر؟ لو ركّبـتَه على لـوح الدّراس لداخَ من دورتين.
- إذاً لينتبه إلى دروسه على ألأقل.
- حافظ أشـطر ولد في صفه. يريد أن يَصير دكتوراً.
- شُغـلة مربحـة... شباب هذه الأيام أكثرهم مرضى، والسليم منهم كعودة الحطب.
فاعترضت أختي الصغيرة التي ما زالت في الصف الثاني:
- أنا أشطر من حافظ. صحيح يا جـدي؟
- طيّـب يا سناء، خمسة في خمسة يساوي كم؟
وأجابت سناء على الفور:
- يساوي رُبع لـيرة.
واستـند جدي على كتف أمي من شدة الضحك، وصنع رذاذ بصاقه المتناثر بقعاً سوداء على الجمر الأحمر في الكانون. وبعد أن هدأ قلـيلاً أخرج صُرة نقوده من تحت زنّاره وأعطى منها رُبع لـيرة لسناء، فاعترضت أمي على ذلك:
- يا ملعونة! قبل ساعة أخذت نُص لـيرة.
- أتركيها يا شيخة، النص لـيرة والربع لـيرة لا تكفيها لشراء بَسكُوتة. النقود في هذه الأيام مثل التبن. رشف جـدي رشفة من فنجان الشاي ثم تابع:
- زمان... كنت أركب الفرس وأنزل إلى عكا وما في جيبي إلا لـيرة واحدة، فأشتري مَؤونة العائلة لشهر كامل وأرجع ومعي كم قرش.
وعلقتْ سناء على حديثه ببراءة الطفلة:
- صحيح يا جدي؟ حافظ! هل تنزل معي غدا إلى عكا لنشتري بالربع لـيرة مؤونة الشهر؟
وضحكنا بصوت عال، إلا أن ذلك لم يعجب أخي سعيد الذي أحضر كتابه معه ليدرُس للامتحان الذي كان سيقدمه في اليوم التالي، وكان يومها في الصف السادس، فاحتج بغضب:
- ألا يستطيع الواحد أن يقرأ معكم؟
ردت علـيه أمي:
- قرأتَ أكثر من ثلاث ساعات مع اخوتك، ألا يكفيك؟
- لا، لا يكفيني. غداً إنْ سقطـتُ في الامتحان ستقولون: سعيد مُهمل، سعيد تِيس، سعيد يقضي وقته في اللعب مع ابن خلـيل الشَـلفاوي!
- إذاً رُح أدرس في غرفتك. نحن نريد أن نتسلى قليلاً مع جـدك.
ربَّتَ جدي على كتفها وقال:
- أتركيه يا بنتي. هو أدرى الناس بشأنه.
ثم توجه إلى أخي سعيد قائلا:
- عافاك يا ابني، بارك الله فيك. شِـد حيلك حتى لا تظل جاهلاً مثل جدك.
قالت له أمي وهي تصب الشاي مرة أخرى في فنجانه:
- لا تقل هذا يا أبي. أنت أكثر علما منهم كلهم.
- شباب اليوم يا بنتي يَظنون أننا كنا جهلـة لأننا لم نتعلم في المدارس. صحيح أنه لم تكن على أيامنا مدارس ولا كتب، وما رأينا في حياتنا من أدوات الكتابة إلا ريـشة شيخ البلد الذي كان الوحـيد الذي يعرف كيف يفك الخـط ويقرأ المكاتيب. لكنا لم نكن جهلة. كنا نعرف قوانين الحـياة على السليقة. كنا نتعلم من الأرض السخـية، من البهائم والمواشي، من حمـلات الحطب وأغمار القمح والذرة، من حبات الزيتون وأشواك الصـبر، من حرث الأرض على الفدّان تحت الشْميط وفي الرياح المجنونة، ومن حصاد القمح ودرسِه تحت الشمس الحارقة. كل هذا كان يعلمنا الصدق والأمانـة، واحتمال التعب المهلك من أجل لقمة العيـش، والالتفاف حول بعض أمام اللصوص والأشرار الذين طالما حاولوا نهْب حـلالنا أو حرق زرعنا أو قتل أبنائنا...
سأله أخي سعيد بنوع من التحـدي:
- وهل تسـمي هذا علماً يا جـدي؟
- إن لم يكن هذا علماً فماذا يكون العلم في نظرك يا سعيد؟ أنْ تعرف كيف تجمع وتطرح، وأن تحفظ الأشعار وتعربها؟ نحن لم نتعلم شيئا من هذا، ولكنا كنا نعرف كيف نجمع ونطرح... الراعي يَعُـد عَجّـاله كل يوم مرتين بدون غلط، والفلاح يقيـس أرضه طولاً وعرضاً بالفحجـة والشِبر، والزعيم يحفظ رجـال حمولته فرداً فرداً، والختـيارة تلـقي نظرة على فراخها وصيصانها فتعرف إن نقصوا واحداً مِن أول نظرة. هذا ما كنا نعرفه، وكان هذا يكفينا في عيشتنا البسـيطة.
حرك جـدي الجمرات في الكانون بطرف إصبـعه ليزيح الرماد عن الوهج، ثم قال بنشـوة الذكرى:
- الشيخ عبد الكريم كان يحفـظ القرآن غيباً... أبو الخـير كان يروي قصة الزير سالم وتغريبة بني هـلال مع الأشعار والأزجال... الحاج سليم السَّلحوت كان يحفظ شجرة حمولته إلى عشرين جـد... شيخ البلد كان يحـفظ ألفـية ابن مالك من أولها إلى آخرها. رحمـة الله عليهم جميعا، كلهم استراحوا من هذه الدنيا التي لا تعرف فيها الظالم من المظلوم.
مسح جـدي لحيته وأطراف فمه بطرف كمه الأصفر ليزيل البصاق الذي تناثر خلال حديثه، ثم رفع طرف حطته من الأمام وأخذ يحـك مُقدمة صلعته بشـدة وكأن شيئا ما هاجمها على حين غرّة، وقال وهو يفعل ذلك:
- آخ على أيام زمان! كان الواحد يعيش على قدّ حاله، مبسوطاً يحمد الله على ما أعطاه... يهلك طول النهار في الشغل، لكن أكلة مْجَدرة على البـيدر أو ساعة من السهر بعد العشاء في مضافة المختار كانت تكفي لتزيل التعب وتغسل الهموم... كان الواحد يعرف كيف يدافع عن شرفه وحُرمـته، يفدي أرضه بالغالي والرخيص، ويفضل الموت بشرف على عيشة الذل والمهانة.
هرش جبينه بعصبـية ثم سأل أمي بحزن يغالبه الافتخار:
- هل تذكرين يا بنتي حادثة الخواجة جورج؟
- يوم حريقة القمح؟ وهل هذه حادثة تُنسى يا أبي؟
- كنا رجالاً فعلاً، لا نهاب الرصاص ولا الموت، ننـفذ الخطة في الوقت المناسب بدون فلسـفة زائدة. لم يكن لدينا وقت لشُوفة النفس والتهويل الفارغ. لو يتعلم شباب اليوم من هذه الحادثة لما خسـروا أراضيهم وبيوتهم.
وضعت أمي الفناجين الفارغة على الصينية، ورمى سعيد الكتاب الذي كان يريد القراءة فيه ثم اقترب من الكانون وأخذ يدفئ كفـيه بلهيبه، وانتقلتْ سـناء برشاقة فجلست في حضن جدي وخبّأتْ قدميها تحت الكانون، أما أنا فسحبتُ البطّانية فوق ساقيَّ وأسندت ظهري إلى الحائط استعداداً للإصغاء. داعبت سـناء لحية جدي وقالت له راجـية:
- احك لنا قصة الخواجة جورج يا جدي.
ابتسم جدي بحنان، فقلت أشجـعه:
- بحياتك يا جدي! لم نسمع بحريقة القمح من قبل.
أطرق جدي قلـيلا يتذكر، ثم رفع رأسه ونظر إلى أمي مبتسماً، وأخـذ يتحسـس بأصابعه الذابلة وجه أختي سـناء كأنه يستعـين به على الرجوع إلى عهد طفولته وصباه، أو كأنه يبحث بين ملامح الطفلة عن ملامحه الماضية التي كاد ينساها بعد أن اختفت وراء تجاعيد الزمن، ثم انفرجت أساريره لشعوره بأنه لا يزال إنساناً نافعاً يحتاج إليه الغير فيرجون منه أن يلبي لهم طلباً. وأخيراً ركّـز جدي بصره على النار المتـقدة في الكانون ثم أخذ يروي لنا:
- في أيام الانتداب الإنجليزي كنا نتعوذ بالله من الشيطان في نهاية كل موسم، لأننا كنا نعرف أنّ هذا هو الوقت الذي يأتي فيه "التحصيل دار" من عكا لجباية الضريبة من أهل البلد. فلما كان يصل إلى البلد كان ينزل في مضافة المختار ويَفرض على أهل البلد مبلغاً من المال أو مقداراً من الغلـة حسب تقديره لمنتوج الموسم، فيوزع المختار هذا المبلغ أو المقدار على أهل البلد حسب ذمته وضميره. ويبقى الإنجليزي في المضافة يأكل ويشرب وينام، إلى أن يتجمع عنـده المطلوب فيحمله ويعود إلى أسياده في عكا، ولا نرى خِلقَـته إلا في الموسم التالي. فكنا نتحمـله بيننا في هذه الأيام القليلة، ونتعب كثيرا لإحضار ما يطلبه منا بسرعة كي نزيحه عن خِلقَتنا. فما أنْ يترك البلد ويسافر مع حُمولته حتى نسـترد أنفاسـنا وتعود إلينا بهجة الحياة ولذة العمل.
ولكن في سـنة من السـنين أصاب البـلاد قحـط ومَحْـط، فانحبس المطر ونشـفت الوديان، حتى في كوانـين لم تنزل نقطة واحدة، فجف العشب ويبست أعواد القمح والذرة قبل أن تَحكُم بذورها، وماتت بذور البطيخ والشمام تحت التراب، وسقط نوار الزيتون واللوز قبل أن يَعـقِد، فكان موسم تلك السنة لا يُعَوض على الفـلاح تعبه. وأصاب الناس فقر شـديد، وانتشر السـل في البلد فحصد الصغار قبل الكبار، وهزلت المواشي وتشققت ضروعها من قلة المرعى، وكان البغل لا يقدر على حمل كيس التبن من قلة العلـف. وما أغنى من كان يخزن في بيـته قلـيلا من الزيت أو القمح أو الشعير من غلة الموسم السابق، أو من كان عنـده مال ليشتري مؤونته من المدينة، والوحيد الذي كان غنياً في قريتنا تلك السـنة هو المختار أبو سْـلِيمان.
جاء "التحصيل دار" في الموعد المعهود إلى مضافة المختار، ففرض على أهل البلد ضريبة من المال والغلال كانت كبيرة حتى أنها لو توفرتْ لنا لاستعنا بها على مصيبتنا ودفعنا شبح الفقر والموت عن أولادنا. ولما عَلِم الناس بالضريبة المطلوبة مِن كل واحد، ثار الرجال وبكت النساء وانتشر الصراخ والضجيج.
تجمع شيوخ البلد في المضافة وحاولوا أن يشرحوا للإنجليزي بُؤسهم وبلواهم، وحاول المختار أن يقنعهم بأنه فَعَل ذلك قَبلهم دون فائدة. ولما أدركوا أنه لا نتيجة من التفاهم بالحُسنى خرجوا وفي نيتهم أَلا يقدموا له شيئا.
بقي "التحصيل دار" في البلد أسبوعاً، ولم يَحصل على قرش واحد أو كيل قمح أو رَطل زيت. وما صدّقنا أن رأيناه يخرج من البلد فحمدنا الله وقلنا: "كابوس وأفقنا منه!" ولكن ما أن طلع نهار اليوم التالي حتى أقبل علينا ضابط إنجليزي ومعه خمسة جنود على الخيل، فتعوذنا بالله من الشيطان الرجيم وركِبَنا الهم والغم.
نزل الضابط في المضافة فدخل مع المختار وأقفلا عليهما الباب. وبعد نصف ساعة فقط كان الجنود الإنجليز الخمسة ينهبون الزرع والضرع. كانوا يدخلون إلى البيوت بدون إذن، ومَنْ كان يعترض طريقهم هددوه بالرصاص وضربوا رأسه بكعاب البواريد. وما وجدوا شيئا فيه منفعة إلا حملوه معهم إلى المضافة، ومع ذلك لم يكن كل ما جمعوه كافياً لإطفاء غضب ضابطهم، فقرر الضابط أن يبقى لمـدة أطول.
ثاني يوم اجتمع ثلاثة من رِعيان البلد في "أبو قَرعة" يشْكون الحال لبعض ويفكرون بمخرج يخلص البلد من الإنجليز. ولم نَدر كيف انتشر خبر هذا اللقاء في البلد كالبرق، فما مر أكثر من شربة سيجارتين حتى انضم إلى الرعيان الثلاثة أكثر من ثلاثين شاباً، وكنت أنا واحداً منهم. وخاف الرعيان أن يَفضح الجنود الإنجليز أمرَهم، فطلبوا من الجميع النزول إلى "وادي حْصين" بعيداً عن البلد ومَن فيها. وبعد الكثير من الأخذ والعطاء والصد والرد، اتفق الشباب على رأي. وعاد كل واحد منا إلى شُغلِه، أما محمود الراعي فراح يجوب البلد من حارة إلى حارة ويوصل قرار الشباب إلى مشايخ الحمايل كلها، والمختار أبو سليمان من ضِمنهم: "الشباب قرروا أن يتصرفوا ضد الضابط الإنجليزي وجنوده، وعلى مشايخ البلد أن يتفقوا على خطة، اليوم قبل بكرة، ومَن ليس مع أهل البلد فهو مع الإنجليز وسوف يأكلها ويَعدّ عنها، وذنْبُه على جنبه."
بعد العشاء امتلأت طرقات البلد برجال يخرجون من بيت شيخ ويدخلون بيت شيخ آخر، ثم يعودون إلى بيت شيخهم ليخرجوا منه بعد قليل إلى بيت شيخ ثالث، وهكذا ظلوا طوال الليل كالخفافيش يتنقلون في الظلام. أما الإنجليز فظلوا يراقبون ويتساءلون إلى أن أعياهم التعب فناموا في مضافة المختار والبلد لا تغمض لها عين، وأما نحن الشباب فكنا متجمعين عند باب الجامع ننتظر النتيجة. وقبل تسبيحة الخطيب بقليل رأينا المختار أبو سليمان يهرول نحو الجامع وهو يتلفت حوله كالمقروص، ثم أخذ شيوخ الحمايل يأتون إلى الجامع واحداً تلو الآخر. ولحِقنا بهم فوجدناهم جالسين في القَبْو يتهامسون. قال أبو العفو شيخ السعدية: "يا جماعة الخير، كلنا متفقون على أن الإنجليز زادوها وفرَّقوا عنها، والكيل طفَح مِن زمان. أولادنا تبكي، وحريمنا تشكي، وشبابنا دمهم يغلي ولا يردهم عن الإنجليز لا شيخ ولا مختار. علينا أن نعمل خطة للتخلص من الإنجليز الأوغاد." همهَمَ الباقون وهم يهزون رؤوسهم بالموافقة، وقال أبو الشفيق شيخ الخطبا هامسا:"كلكم تعرفون الداهية عارف شَق التُوم ابن عمي خليل، وأنه ما في أحد أشطر منه بالخُطط. الليلة ناديت عليه واستشرته، ورتبنا خطة نجاحها مؤكد بأذن الله، ولكن بشرط أن يكون الضابط غائباّ عن البلد. ابعدوا الضابط عن البلد، وأنا أتكفل لكم بالجنود." "كيف يا حسرتي نُبعد الضابط عن البلد؟" تساءل الحاج مازن شيخ دار النابلسي، فرد عليه المختار أبو سليمان: "إسمعوا يا مشايخ! نحن نحتاج إلى واحد يُغري الضابط الإنجليزي ويسحبه معه من البلد، ولا يعرف أهواء الإنجليزي إلا إنجليزي مثله.وأنا عندي الحل: انتم تسمعون بصديقي الخواجة جورج الإنجليزي تاجر الفَشَك المهرب في طبريا. وعلاقتي مع الخواجة جورج قوية، فأفضالي عليه كثيرة ومماسكي عليه أكثر، ولذلك فهو لا يرُد لي طلباً. والخواجة جورج يبيع جيش الإنجليز كله بتنكة زيت. فإذا كانت المسألة تتوقف على إخراج الضابط من البلد، فأنا مستعد أن أركب الفرس الآن وأمدّ على طبريا، وبعد الظهر أكون في البلد والخواجة جورج في أعقابي." وافق شيوخ البلد على اقتراح المختار، فبعث المختار محمود الراعي ليحضر له الفرس من البيت، وقال للبقية: "إذا سألكم الإنجليز عني فقولوا لهم أنكم لم تروني ولا تعرفون عني شيئاً." وبعد أن ركِب على الفرس قال: "ارجعوا الآن كل واحد إلى بيته، أما أنت يا شيخ أبو الشفيق فخذ مَن تحتاج من الشباب إلى بيتك واشرح لهم خطتك."
عند العصر عاد المختار إلى البلد فتجاهلته عيون الناس عمداً، وفي المضافة استقبله الضابط الإنجليزي هائجاً يسأله إلى أين اختفى دون أن يُخبره، فأجابه المختار: "كانت الفرس مريضة وظلت تصهل وتنوح طول الليل، فأخذتُها عند البيطري في الرامة، وبكّرتُ في الخروج قبل أن تموت الفرس، وجَنابك كنتَ في سابع نومة فلم أرد أن أزعجك بتوافه الفلاحين ودوابهم."
ثاني يوم الصبح وصل الخواجة جورج إلى البلد، وظل متوارياً خلف شجرة الزنزَلَخْت في أول حارة المختار، عينه على باب المضافة وعيون الناس عليه. بعد الفطور خرج الجنود الخمسة من المضافة واعتلوا خيولهم وشرّقوا باتجاه السهل، ثم خرج الضابط ليلحق بهم، وما أنْ وصل إلى حصانه حتى باغته صوت الخواجة جورج: "جود مورننج سير!"
سمعنا جدي يلفظ تلك الجملة بالإنجليزي مقلداً الخواجة جورج، وانفجرنا جميعاً بالضحك. قال سعيد وهو يشهق:
- يا سلام يا جدي! ما كنت أعرف أنك بريطاني قُح.
وسألته سناء وقد أصبح وجهها بلون الجمر في الكانون:
- إيش قال الخواجة جورج؟
فابتسم جدي وأعاد الجملة بلحن إنجليزي مبالغ فيه:
- جود مورننج سير!
فانقلبت سناء على ظهرها في حضن جدي وهي تكاد تختنق من الضحك، وأطرافها الأربعة تدُور في الهواء كأطراف نعجة مذبوحة. ثم تدخلت أمي وهي تدفن وجهها بالمنديل:
- خَلَص يا أولاد! خلوا جدكم يكمل. صارت الدنيا نص الليل.
فتنحنح جدي وبصق في طرف الكانون ثم تابع:
- المهم، رَطَن الخواجة جورج والضابط حوالي نصف ساعة بالإنجليزي، وبعدها دخلوا إلى دار المختار وتركوا الحصان هناك، ثم ركبوا الجيب العسكري وتركوا البلد. بعدين فهمنا من الخواجة جورج أنهم سافروا إلى الناصرة ليتغدوا ويشربوا هناك مع مجموعة من أصحاب الخواجة جورج الإنجليز.
في عِز الظهر كنت أنا ومحمود الراعي وخالد النجار (أبو الدكتور موسى ما غيره)، وكانوا يلقبونه "الجندب" لخفته في القفز... كنا مختبئين خلف شُقفان العين على طرف السهل، أنا ومحمود الراعي مِن تحت، والجندب فوق في أول المَسرَب. وبعد لحظات سمعنا الجندب يهمس: "أجوا، أجوا". ولما اقترب الإنجليز من الجندب فزَّ من وراء الصخرة وضرب عليهم حجراً وركض إلينا، فلحقوه على الخيل. ولما صاروا على مرمى حجر منا اعترضنا طريقهم وصرنا نراجد عليهم ونركض باتجاه السهل وهم يطخون علينا، وكلما توقفوا توقفنا واختبأنا خلف الشقفان حتي يظنوا أنهم يستطيعون الإمساك بنا، وما أن يقتربوا منا حتى نفزّ كالشياطين فنُراجد عليهم ونركض باتجاه السهل والرصاص يسبقنا، إلى أن وصلنا إلى طرف مارس القمح فصرنا نركض بين القمح. ولما وصل الإنجليز إلى طرف المارس توقفنا وانبطحنا على الأرض، فدخل الإنجليز على خيولهم بين القمح وصاروا يقتربون منا بحذر. ولما صاروا على بعد خطوتين منا نهضنا وراجدنا عليهم وركضنا بين القمح فلحقونا. ولما وصل الإنجليز إلى وسط المارس صاح محمود الراعي بأعلى صوته: "ولّعَتْ!" وفي أقل من لمح البصر كانت النار تشتعل على طول المارس من الشرق والغرب والشمال. وكانت ساعتها طقة شُوب والهوا شرقي، والقمح قَصَل ناشف تأكله النار كأنه مرشوش بالكاز. تطلع الجنود حولهم وصاروا يصرخون على بعض ويُهَتوِرون بعصبية. وفجأة صاروا يطلقون الرصاص في الهواء، فجفلت الخيل وصارت تقف على رجليها وتبرُم حول نفسها والجنود يحاولون السيطرة عليها. وكانت النار تكبر وبقعة القمح حول الجنود تصغر والدخان يملأ السهل.
ولما أحسَّت الخيل باللظى على جلدها والأرض تلتهب تحت أقدامها، هربت إلى القِبل وخرجت من الفتحة التي تركها أهل البلد عن قصد، ثم لجَمَها الجنود حين وصلت إلى الطريق فتوقفت خارج المارس، والتقط الجنود أنفاسهم غيرُ دارين بأنّ الطريق مفروشة بقصَل القمح. وما أن انتبهوا إلى ذلك حتى رأوا النار تلتهم الطريق من الشرق والغرب وتسرع نحوهم كأنها تريد أن تلتهمهم، فلم يكن أمامهم من مفر إلا أن يدخلوا في مارس القمح المجاور من القِبل، وبعد لحظة دارت النار في أطراف المارس من الشرق والغرب والشمال. وظل الجنود يخرجون من مارس مشتعل إلى طريق تأكله النار، حتى دارت لهم الخطة واستوعبوا الفكرة من ورائها، فلكزوا الخيل ورَمَحوا إلى القبل حتى خرجوا من الطرف القبلي للسهل واختفوا وراء جبال البعينة، في حين أصبح السهل مرشوماً بالرجال يُكبّـرون ويهللون ويهنئون بعض. ثم رجعنا إلى البلد بمْرُودَحَة.
ولما وصلنا إلى البلد فاعَت الزغاريد والتمَّ النسوة والأولاد من حولنا، وظلينا ماشيين بالمْرُودَحَة لعند مضافة المختار، فخرج علينا المختار ملوحاً بعكازته العجمية وقال: "يعطيكم العافية يا شباب، وتِسلَم زنودكم. يالله يا جماعة، كل واحد على بيته، وعلى السكت قبل ما يرجع الضابط من االناصرة."
في آخر السهرة رجع الضابط، وسأل المختار عن جنوده فقال له: " ما شفناهم اليوم بالمرة، ولا نعرف عنهم أي شيء." دخل المختار والضابط الى المضافة، وبعد نصف ساعة ركبوا على خيولهم وداروا البلد كلها والتلال التي حولها، ثم عادوا ووجه الضابط كالعُطبة. وبقينا نحن الشباب طول الليل ملتمّين تحت شجرة الزنزلخت وعيوننا على المضافة. وقبل الفجر رأينا الضابط يركب سيارته، والمختار يتكلم معه ولكن الضابط لا يلتفت إليه ولا يرد عليه، ثم ساق الضابط سيارته وخرج من البلد، وما أن اختفتْ السيارة بين زيتون الغربية حتى قامت الهيزَعَة في البلد والناس كأنها في عيد. ومن ذلك الوقت لم يرجع الإنجليز إلى البلد، فصاروا في كل موسم يطلبون من المختار أن يجمع لهم من أهل البلد ما يَقدر عليه ويأخذه بنفسه إليهم في عكا.
بصق جدي في طرف الكانون مرة أخرى، وبطرف المِلقَط دفنَ بصقته في الرماد، ثم وضع راحته على رأس سناء التي كانت تغط في سبات عميق وكأنه يستمد من براءتها أملاً، وقال:
- اليوم انقلبَتْ الأحوال، وانشغل الناس في بعض، والمُحتل لا في عكا ولا حيفا وإنما في كل مكان، منا وفينا، واولاد الحرام كثروا، والخير في الناس قل، وما لنا أمل غيركم أنتم يا أولاد. يالله قوموا ناموا حتى تفيقوا على مدارسكم.