أحدث الأخبار
الجمعة 27 كانون أول/ديسمبر 2024
عروبة في المزاد!

بقلم : د. فيصل القاسم.....9.6.06 ... Ø¯. فيصل القاسم

لا أدري لماذا مازال الشعب الفلسطيني وبعض العروبيين السذج يصرخ عالياً مستنجداً بالعرب على طريقة "وامعتصماه" لإنقاذ الفلسطينيين من الهمجية والعربدة والغطرسة الإسرائيلية. ولا أدري إلى متى يتعلق البعض بأساطير وخرافات قومية ووطنية بالية أكل عليها الدهر وشرب، ولم تعد موجودة إلا في مخيلات الرومانسيين والطوباويين من العرب العاربة والمستعربة، أو على أبعد تقدير في البيانات العربية العاطفية السخيفة التي لاتسمن أو تغني من جوع. لقد تغير العالم العربي وتغيرت معه المصالح والمشاعر، إن لم نقل ضاقت وفسدت إلى حد كبير، فقيم النخوة والتضامن العربية المزعومة، على هشاشتها، لم يعد لها أي محل من الإعراب عملياً، فقد حلت محلها قيم الفردية والأنانية الضيقة في السياسة والاجتماع والاقتصاد منذ زمن بعيد. ولو تذكر القوميون العرب في فلسطين وغيرها تصريح أحد كبار المسؤولين العرب أيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية لما عادوا واستنجدوا بالمشاعر العروبية واستجاروا بالأنظمة الحاكمة كي تنقذ الشعب الفلسطيني من براثن آلة الحرب الإسرائيلية.
لقد صرح ذلك المسؤول العربي تحت تأثير الضغط الشعبي العام عام ألفين واثنين لمساندة الفلسطينيين عندما كانوا يتعرضون للإبادة والتجويع والحصار قائلاً: "إن بلاده ستكون مستعدة لإعلان الحرب على إسرائيل إذا ما قدمت لها الدول العربية مائة مليار دولار". وحسب الخبر الذي أوردته وكالة الأنباء الفرنسية وقتها نقلاً عن مقابلة للمسؤول في جريدة خليجية، ألمح صراحة إلى مقايضة أي تحرك لحماية الشعب الفلسطيني بمبلغ مالي ضخم، وإلا فلا حياة لمن تنادي. وقال المسؤول للصحافي الذي سأله لماذا لم تتخذ دولته تدابير رداً على الهجوم العسكري الاسرائيلي ضد الفلسطينيين: "إذا أردت ان تتحرك وأن تكون جاهزاً لمواجهة التحديات لابد أن تكون لديك مائة مليار دولار". وأضاف رداً على سؤال يتعلق بعدم قيام بلاده بطرد السفير الاسرائيلي: "قلت لك نريد مائة مليار دولار".
وكي لا نظلم دولة عربية بحد ذاتها ونحملـها وزر التهافت العربي القميء، يجب أن نعترف بأن تصريح ذلك المسؤول الكبير آنف الذكر كان يعبر عن موقف عربي رسمي عام، ولا يقتصر على دولة دون أخرى، وربما باركه الكثير من الحكام العرب في سرهم وأثنوا على جرأته الفذة وصراحته الباهرة. صحيح أن أفئدة ومشاعر الشعب العربي من المحيط إلى الخليج مع إنقاذ الشعب الفلسطيني وافتدائه بالغالي والرخيص وتخليص الشعب العراقي من ربقة الاحتلال وعملائه، ولو عاطفياً، لكن شتان بين مشاعر الشعوب الرومانسية ومواقف الحكومات النفعية والتجارية والمصلحية.
وكي لا نظلم المسؤول العربي المذكور أعلاه أود أن أشير إلى أنني سألت شخصية عربية ذات مرة عن سبب تقارب بلادها مع العراق بالرغم من الضغوط الأمريكية والحصار الدولي الذي كان مفروضاً على العراق قبل الغزو، فأجابتني بلهجة اعتذارية، كما لو أنها تريد التبرؤ من العراق: "وهل صدّقت أنه تضامن عربي، لقد وجدنا أن الجميع يحاول الاستفادة من "برنامج النفط مقابل الغذاء" ببيع العراق مواد استهلاكية، فركبنا الموجة، وبدأنا نتاجر مع العراق كي يكون لنا نصيب من الكعكة، ولو لم يكن الأمر متعلقاً بمصالح مالية وتجارية لتركنا العراق جثة يفترسها العقبان والغربان".
وكيف ننسى كيف قامت بعض الجهات بتنظيم حملات تبرعات للفلسطينيين وجمعت منها ملايين الدولارات من جيوب الجوعى والفقراء، وبدلاً من أن تذهب التبرعات إلى الفلسطينيين الثكالى والمرضى والجوعى حطت رحالها في حسابات مسؤولين عرب، وبذلك نكون قد أسأنا للفلسطينيين مرتين، الأولى عندما تركناهم يُبادون ويُسحقون أمام آلة الدمار الإسرائيلية، والثانية عندما تاجرنا بمأساتهم قولاً وفعلاً. لهذا لو كنت مكان الشعوب العربية المنكوبة، كالفلسطينيين والعراقيين والصوماليين والحبل على الجرار لما حلمت بأي دعم عربي رسمي، بل لحصّنت نفسي من التآمر العربي على قضاياي، عملاً بالقول المعروف:" اللهم احفظني من أصدقائي أما أعدائي فانا كفيل بهم".
كيف يستجير الفلسطينيون والعراقيون بالعرب إذا كان العديد من الأنظمة العربية قد رفع على الملأ شعار "أنا أولاً" كما رأينا في أكثر من بلد، والحبل على الجرار؟ لكن المشكلة لدينا أننا لم نتفرق ونتشظى كي نتقدم كما حصل مع تايوان وسنغافورة والدويلات المستقلة الصغيرة التي يبلغ انتاجها القومي أكثر من أكبر دولة عربية، بل كي نزداد تخلفاً وأنانية وتقوقعاً وقطرية كما هو حاصل مع معظم الدول العربية، حسب ما رأيناه من تصريحات بعض المسؤولين العرب الذين ينطبق عليهم المثل الشعبي"معييّد القريتين"، فقد أراد فلاح أن يعايد أقرباءه في قريتين متجاورتين، فركب حماره وذهب ليعايد القرية الأولى، لكنه غير رأيه في منتصف الطريق وتوجه إلى القرية الأخرى، لكنه وصل متأخراً كثيراً، فلم يعايد أياً منهما في نهاية النهار. وهكذا أمر الأنظمة العربية فلم تنجح لا في الوحدة ولا في التجزئة، فتحولت إلى دول خُـرده.
كيف تتوقع من أنظمة تبطش بشعوبها ليل نهار وتحاربها بلقمة عيشها وتبقيها تحت النعال وترهن ثروات الأوطان وتمارس السلب والنهب المنظم أن تهب لنجدة شعب آخر، فلسطينياً كان أو عراقياً؟ إنه تفكير عربي غبي بكل معنى الكلمة. فإذا كان الأقربون ليسوا أولى بالمعروف في عرف الأنظمة الحاكمة، فكيف يكون الأبعدون؟ لا شك أن الضعف العربي هو المسؤول عن الوضع العربي المتردي والاستفراد الإسرائيلي بالبلدان العربية، لكن الذي زاد الطين بلة هو استفحال "البازرية" أو "المزادية" العربية "الغراء" حيث أصبحت القيم الوطنية والمشاعر القومية والعذابات الإنسانية تباع وتشترى في المزاد، بعدما راحت بعض الحكومات العربية، كما رأينا، يزايد على عتاة التجار والمضاربين في تجرنة القيم والأخلاق والسياسات، وبعد أن تحول العالم العربي إلى سوق عكاظ كبير، لكن ليس للمبارزة في قرض الشعر العربي الأصيل، بل في بيع المواقف والمزايدات والمساومات والمضاربات السوقية.