أحدث الأخبار
الجمعة 27 كانون أول/ديسمبر 2024
الإعلام العربي بين العوربة والعولمة!!

بقلم : د. فيصل القاسم ... 25.6.06

قلت في مقال سابق لي بعنوان "العوربة تصرع العولمة بأدواتها" إن "العوربة" الإعلامية انتصرت مرحلياً على العولمة، من حيث إنها وحدّت الشارع العربي على الأقل وجدانياً وسياسياً ضد السياسات الغربية الجديدة شبه الاستعمارية، ووسعت الاهتمام بقضايا العرب الرئيسية من المحيط إلى الخليج، وصهرت الهموم السياسية العربية في بوتقة واحدة. لكنني أود أن أوضح في هذا المقال أن نجاح العوربة كان سياسياً فقط. أما ثقافياً، وهو الأخطر والأهم، فقد راح الإعلام العربي يلعب دوراً عولمياً واضحاً، بحيث أصبحت بعض وسائل الإعلام العربية، من سخرية القدر،السلاح الأمضى في أيدي سادة العولمة لنشر إنجيلهم العولمي عربياً وصهر العرب في البوتقة الغربية. أي إننا نتعولم "من كيسنا". فقد ترافق التضاد السياسي بين الغرب والعرب مع تهافت ثقافي عربي كاسح على منتوجات العولمة الإعلامية الغربية.
تبدو بعض الفضائيات العربية العاملة في مجال الترفيه مثلاً غربية في كل شيء، إلا في اللغة فقط. صحيح أن مادتها هي المذيع أو المذيعة العربية التي تستعمل اللغة العربية، لكن تلك الفضائيات غربية الهوى والشكل والمضمون قلباً وقالباً. هل تختلف مذيعاتنا العربيات اللواتي يتصدرن واجهات الفضائيات العربية من حيث الشكل عن المذيعات الغربيات؟ بالطبع لا، فهن نسخة طبق الأصل عن نظيراتهن في الغرب. لا بل إن بعض المذيعات العربيات يزايدن من حيث المظهر على المذيعات الغربيات. وقد اختفت المذيعة المتدثرة باللباس التقليدي، كي لا نقول الإسلامي، خاصة أن بعض الفضائيات العربية تحارب المذيعات المتحجبات وتصدر الفرمان تلو الآخر لمنعهن من الظهور على الشاشة بالحجاب. وغدت المذيعة المتحجبة هي الاستثناء. وهذا بحد ذاته انتصار ساحق للتغريب على صعيد الشكل.
ولو اقتصر التهافت على مظهر المذيعين والمذيعات لهان الأمر، لكن التعولم انسحب على طبيعة البرامج العربية ومحتوياتها، فأكاد أجزم أن السواد الأعظم من برامج المنوعات والموسيقى والمسابقات والترفيه هو استنساخ أعمى للهياكل الإعلامية الغربية. فقد استسهل القائمون على وسائل الإعلام العربية الأمر وراحوا يتبنون الأشكال والصيغ الإعلامية الغربية بشكل أتوماتيكي. صحيح أنه ليس لدينا تراث إعلامي عربي يمكن الاعتماد عليه للتنافس، على عقول وقلوب الجماهير. وصحيح أيضاً أن الأنظمة العربية الحاكمة أخصت الإعلام وحولته إلى أبواق للتطبيل والتزمير لهذا الحاكم أو ذاك، وبالتالي تقوقع الإعلام العربي في قوالب جامدة ومحدودة، لكن كان من الممكن استنباط برامج وصيغ وأشكال ومواد إعلامية ذات هوية عربية بدلاً من الاعتماد الكلي على الهياكل البرامجية الغربية. وأنا هنا لا أدعو إلى نبذ الأساليب الإعلامية الغربية، فهي رائدة بكل المقاييس وتـُحتذى في كل أنحاء العالم، لكن لا مانع من أن يكون لدينا ثقافتنا البرامجية الخاصة للتنويع على الأقل، إذا كان لنا ألا نذوب تماماً كحليب "النسلة" في بحر العولمة الإعلامية الغربية.
ولو ظل الاستنساخ محصوراً في دائرة الصيغ والأطر لقلنا إن تركيبة البرامج الغربية مغرية ومن الصعب مقاومة اقتباسها، لكن المشكلة أننا بتنا نعالج قضايانا السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية من منظور غربي. فالبرامج الإخبارية السياسية مثلاً غدت نسخة طبق الأصل عن البرامج الغربية ذات الشكل الديمقراطي من حيث تناول الموضوعات، وهو بلا شك شيء رائع، لولا أن تركيبة مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسية والثقافية والذهنية تركيبة شمولية استبدادية متخلفة، بحيث تبدو البرامج العربية ذات الصبغة الديمقراطية غير متماشية مع الجو العربي العام، كمن يلبس بنطالاً قياس خصره أربعين بينما حجم الخصر أقل من ثلاثين. بعبارة أخرى قفزنا إلى الديمقراطية إعلامياً دون أن نمر فيها عملياً. ولم لا، فالرمد يبقى أفضل من العمى. وأرجو أن نترجم تجاربنا الإعلامية الديموقراطية يوماً ما إلى واقع ملموس بحيث لا تبقى حبيسة الشاشات. ولعل التعولم الإعلامي على صعيد البرامج السياسية إذن ثمرة طيبة من ثمار العولمة.
وما ينسحب على البرامج الإخبارية ينسحب أيضاً على البرامج الاجتماعية والثقافية، فقد وصل الأمر ببعض التلفزيونات العربية إلى تناول قضايا اجتماعية في غاية الحساسية في مجتمعات ما زالت تعيش في غياهب القرون الوسطى، مما شكل صدمة كبرى للكثيرين. بعبارة أخرى رأينا التعولم الثقافي والاجتماعي على الشاشة قبل أن نلمسه على أرض الواقع، مع الاعتراف طبعاً بأن الغزو الثقافي العولمي اجتاح بعض مجتمعاتنا كالسيل العرم، وبات معظم شباننا وشاباتنا أقرب إلى النموذج الغربي منه إلى النموذج العربي والإسلامي، في المأكل والملبس والتفكير والتصرفات.
وحدث ولا حرج عن البرامج الترفيهية والموسيقية التي تجتاح شاشاتنا اجتياح النار للهشيم، فقد ترسخت لدينا في السنوات العشر الماضية مثلاً ثقافة الفيديو كليب الغربية بتأثيراتها ومضاعفاتها المتشعبة، فهي ليست مجرد تصوير فني لأغنية، بل لها آثار رهيبة. فعلى المستوى الفني أصبحت أغانينا الجديدة نسخة طبق الأصل عن الأغاني الغربية باستثناء لغتها، والألحان غدت مجردة من نكهتها العربية، وأمست مجرد إيقاعات راقصة خالية من أي طرب عربي أصيل. أما على المستوى الثقافي فقد كرست ثقافة الفيديو كليب تسليع المرأة على الطريقة الغربية، بحيث غدت الفتاة العربية، حسب النظرة الفيديوكليبية الجديدة، مجرد سلعة للعرض والبيع والمتعة. وقد ترجموا ذلك على أرض الواقع إلى تجارة الجنس السياحية، بحيث غدا الجنس أحد أهم عناصر الجذب السياحية في بعض البلدان العربية، تماماً كما هو الوضع في الغرب.أما على مستوى الزي، فقد كانت ظاهرة الفيديو كليب القناة التي مرروا من خلالها ثقافة الأزياء الغربية ورسخوها لدى الجنسين في العالم العربي.
ومما زاد في تكريس صرعة الفيديو كليب هذا الانتشار الرهيب للفضائيات الغنائية التي أصبح عددها بالعشرات والتي تتفنن في استنساخ البرامج الموسيقية والغنائية الغربية التي لها تأثير على الجيل الصاعد أكثر من أي شيء آخر، وذلك حسبما نراه من إقبال على الاشتراك فيها ومتابعتها والتصويت للمشاركين فيها. ولعل إحدى إيجابيات تلك البرامج الغنائية ذات الطابع الغربي أنها أدخلت لنا الديمقراطية عن طريق الغناء، حيث بدأت الجماهير تشارك في عمليات التصويت الحقيقية لهذا المشارك أو ذاك، وتـُنجح متسابقاً وتسُقط آخر بالاقتراع الحر، بدلاً من البصم بالعشرة لهذا الزعيم أو ذاك بكلمة "نعم" في استفتاءات مفبركة من رأسها حتى أخمص قدميها في أقبية وزارات الداخلية العربية المظلمة. لكن هذا لا ينفي الحقيقة المرة، وهي أن هذا العدد الهائل من الفضائيات الغنائية تغريبي بامتياز، ولا يوجد له مثيل في أي ثقافة أخرى، وكأنه مطلوب منا أن نتحول إلى أمة من الراقصين والراقصات. وهو أمر ألمح إليه البروفسور والإعلامي الأمريكي المعروف عبد الله شلايفر حيث قال : "إن التأثير الإعلامي الأمريكي حوّل العرب إلى أمة من الراقصين على طريقة مايكل جاكسون".
وفي هذا السياق يذكرنا الكاتب صالح الراشد في مقال طريف بعنوان: "من يقود الشارع: هيفاء وهبي أم الإسلاميون؟" بالحفلة التي أحيتها الفنانة اللبنانية في سلطنة عمان ضمن الحفلات الغنائيّة لمهرجان مسقط 2006، وحضرها أكثر من مائتي ألف شخص، وقد بدؤوا بالتوافد إلى الشاطئ قبل ساعات من بدء الحفل، ولم يتمكن عشرون ألفاً آخرون من الدخول إلى الشاطئ بسبب الكم الهائل الذي أتى لمشاهدة الحفل. هذا الخبر في تقدير الراشد "يحمل الكثير من المؤشرات، التي تؤكد أن ثمة أغلبية تتزايد في الشارع العربي، تمردت على الخطاب التقليدي، أو أنها لا تحفل به، هذه (الأغلبية) هي الآن (صامتة) وغير فاعلة (سياسياً) في الوقت الراهن، لأن جلهم من صغار السن، بينما أن هذه الأغلبية ستكون مؤثرة و طاغية مع مرور الوقت، من حيث الفعل والتأثير السياسي و الاجتماعي". ويمكننا من خلال هذه "العينة المختبرية هنا أن نستشرف المستقبل، وأن نتنبأ بتطورات الأوضاع الثقافية والسياسية، واتجاهات الأمزجة اجتماعياً، على اعتبار أن مثل هذه الكتل البشرية، التي زحفت بهذه الأرقام الكبيرة لحضور هذا الحفل الفني عندما نقيسها بالقياسات العلمية، تعتبر تعبيراً دقيقاً عن اتجاهات (مزاج) الشارع العربي؛ هذا ما يؤكد المتخصصون في سبر التطورات الاجتماعية وقراءة مدلولاتها. وعلى هذا المنوال لنفترض أن نفس النجمة هيفاء وهبي أحيت حفلة مماثلة في (الرياض) عاصمة السعودية، وفي الوقت ذاته ارتص كل (نجوم) الصحوة السعوديون في محاضرة (وعظية) أو تثقيفية، فكم سيحضر هنا وكم سيحضر هناك؟، لا أعتقد أن ثمة مقارنة!".
وما ينطبق على البرامج الفنية ينسحب على برامج المسابقات التي تنتشر على شاشاتنا ليل نهار، وهي ليست مجرد مشاركة أو فوز في مسابقة، بل جزء لا يتجزأ من عملية التسليع الإعلامية والاجتماعية والثقافية العولمية الساحقة.
زد على ذلك أن بعض الجهات العربية تبرعت بنشر الثقافة الغربية صباح مساء من خلال تخصيص العديد من الفضائيات لبث الأفلام والبرامج الأمريكية على مدار الساعة وترجمتها. ويجب أن لا ننكر أن بعض تلك القنوات استطاعت كسب السواد الأعظم من المشاهدين من فئة الشباب العرب.
ولا داعي للتذكير بأن المجلات ذات الألوان المصقولة والمحتوى السخيف باتت تكسو رفوف المكتبات في بلادنا العربية وتبيع من النسخ أكثر مما تبيع كل الجرائد السياسية والدينية والثقافية مجتمعة. والمشكلة في هذه المجلات أنها، كالفضائيات، تغربت بشكل أعمى، فلو أن مجتمعاتنا العربية وصلت إلى ما وصل إليه الغرب من تقدم صناعي واجتماعي وثقافي، لقلنا لا ضير في وجود تلك المجلات على اعتبار أنها "استراحة محارب"، لكننا لم نحارب، وما زلنا نعيش في الحقبة ما قبل الصناعية بينما تجاوزنا الغرب إلى حقبة ما بعد التصنيع. وبالتالي فإن إصدار مجلات على الطريقة الغربية يكاد يكون أشبه بأكل القشرة وترك اللب.
لا أريد أن يفهم أحد من هذا المقال أنني أدعو إلى مقاومة العولمة الإعلامية، فهذا لا يفعله إلا الدونكيشوتيون المحاربون بسيوف خشبية. لكنني أريد ترشيد التعولم وتسخيره لمصالحنا كي لا نصبح مثل الغراب الذي حاول تقليد مشية الحجلة، ففشل في تقليدها ثم نسي مشيته!.