بقلم : د. فيصل القاسم ... 18.6.06
لم أجزم في المقالين الأخيرين الموسومين «انتهى التاريخ شئنا أم أبينا» و«خذوا ما في عقولهم واتركوا ما في قلوبهم» بأن التاريخ قد توقف تماماً مع الحضارة الغربية، بل أردت أن أقول إن حظ الثقافة الغربية، بأشكالها المختلفة، في البقاء والانتشار والتمكن، أقوى من حظوظ الحضارات القديمة التي حاولت التحكم بالمعمورة وقولبتها على نمطها الخاص، وذلك لأسباب موضوعية محضة. أما أن يسود نمط حضاري معين إلى أبد الآبدين فهذا غير ممكن لأسباب موضوعية أيضاَ.
لكن مع كل ذلك، يجب أن نعترف بأنه لم تظهر حضارة في التاريخ استطاعت أن تقولب البشرية من أقصاها إلى أقصاها كـ«الحضارة» الأمريكية. صحيح أن المفكر الألماني الشهير هيغل قال قبل فوكاياما ذات يوم إن: «بروسيا ستكون حتماً نهاية التاريخ». وصحيح أيضاً أن «نظرية الألفية ونهاية التاريخ قديمة جداً نجدها واضحة عند زرتشت، ونجدها عند حامورابي واخناطون». ولا شك أيضاً أن «نهاية التاريخ كانت حلم كل مجموعة تظن أنها اكتشفت الحقيقة وتريد أن ترغم البقية اقتناعها». وصحيح أيضاً أن «فوكوياما ربما خرج من منطق ديني بحت لأن المسيحية تتكلم عن الألف سنة والعصر الذهبي والفضي والبرونزي والحديدي ونهاية التاريخ ونزول المسيح الموعود وكل فترة تدوم ألف سنة يتغلب فيها عالم النور على عالم الظلام». ولا شك أن الكثير منا يعلم بنظريات أهل الغرب «حول سحرية الزمن في أواخر كل قرن وأواخر كل ألفية»، وأن النازية مثلاً كان لها نظرية الألفية.
وأنا أستطيع أن أضيف إلى تعليق الاستاذ عبد السلام زيان أعلاه أن العولمة ليست ظاهرة جديدة في التاريخ، وليست منتجاً غربياً خالصاً، بل وُجدت منذ ظهور القوى المؤثرة على وجه المعمورة، فكل الحضارات القديمة التي توفر لها بعض من فائض القوة حاولت تصديره إلى الخارج. ولا داعي لسرد أسماء كل الامبراطوريات القديمة التي لم تكن تغيب الشمس عن مستعمراتها، فهذه معلومات تاريخية مؤكدة.
وإذا كان العرب يشعرون بعقدة نقص كبرى هذه الأيام أمام الاجتياح العولمي الغربي لبلدانهم وثقافتهم فلا بد أن يتذكروا أيضاً أنهم حاولوا يوماً ما أن يكونوا سادة العالم. وهذا ما فعلوه بالضبط عندما حاولوا نشر دينهم وثقافتهم في العالم من خلال الغزو والاحتلال والتمدد والتوسع الذي يسمونه مجازاً فتوحات. ليس هناك أدنى شك بأن العرب حاولوا عولمة العالم على نمطهم الخاص. وإلا لما شدوا رحالهم إلى الصين وفرنسا وإسبانيا وأندونيسا وغيرها من البلدان. لا اعتقد أن المسلمين ذهبوا إلى جزيرة سومطرة لصيد البط البري أو للسياحة الثقافية أو للاستمتاع بجمال الجزر الاندونيسية، ولم يذهبوا إلى فرنسا ويخوضوا معركة «بلاط الشهداء» الشهيرة كهواية أموية، ولم يصل الفاتحون المسلمون إلى أبواب النمسا للبحث عن بعض التماثيل الضائعة، بل ذهبوا إلى هناك لنفس الغرض الذي جاء الغربيون عموماً والأمريكيون خصوصاً من أجله إلى بقاعنا العربية وغيرها من الأصقاع العالمية. كل ذلك صحيح. وصحيح أيضاً أنه مهما حاول المؤرخون وعلماء استشراف المستقبل التنبؤ بخط سير البشرية على مدى القرون المقبلة فإن تنبؤاتهم قد لا تتحقق، فمشيئة الله أقوى من صناع الحضارات، وأن حال الحضارات أشبه بالكثبان الرملية في الصحراء، كل مرة في مكان.
لكن مع ذلك فإن الكثبان الغربية لن تبارح مكانها هذه المرة بالسرعة التي عهدناها في الحضارات القديمة التي سادت ثم بادت، فأي من الحضارات العظمى البائدة لم يكن بمقدورها ولم تتوفر لها لا الأدوات ولا الوسائل اللوجستية ولا وسائط الاتصال ولا القدرة المالية ولا العسكرية ولا الثقافية ولا الاقتصادية لقولبة العالم بالطريقة التي نجح فيها الغرب.
هل توفر لأي من العولمات القديمة وسائل إعلام عابرة للقارات كالأقمار الصناعية والفضائيات والانترنت؟ هل كانت السماء آنذاك مفتوحة؟ هل كان لديها ما سماه نائب الرئيس الأمريكي السابق آل غور «السوبر هاي واي» وعلى كل من يريد أن يعيش في هذا العالم أن يسلك ذلك الطريق ولا شيء غيره؟ قد يقول قائل إن وسائل النشر والاتصال الالكتروني والفضائي في العولمة الجديدة لا تسير باتجاه واحد، بل في اتجاهات عدة ليتفاعل العالم مع بعضه البعض. وهذا صحيح إلى حد بسيط جداً، لكن الجهة المسيطرة على الفضاء العالمي إعلامياً هي أمريكا بشكل خاص والعالم الرأسمالي بشكل عام. هل تعلمون أن أمريكا تسيطر على أكثر من خمسة وسبعين بالمائة من الانترنت في العالم، أي حوالي ثلاثة أرباع هذه الوسيلة العولمية الخطيرة. لا بل إن مفتاح الانترنت نفسه موجود في يد أمريكا، وبإمكانها أن تغلق الانترنت في العالم بكبسة زر موجودة في إحدى الحاملات الأمريكية العملاقة التي تجوب البحار. أي تفاعل عولمي هذا الذي يتحدثون عنه وأمريكا تحكم قبضتها على معظم مصادر المعلومات والإعلام في العالم؟
لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة التأثير الإعلامي الذي كان لدى القوى العظمى القديمة، ومنها الشيوعية، بالتأثير الموجود حالياً لدى العولميين الجدد، فهم أكثر قدرة من العولميين القدامى بعشرات المرات في تطويع العالم بفضل قوة الاتصال الرهيبة المتوفرة لديهم، فهم مسلحون بأقوى ما توصل إليه العقل البشري في تكنولوجيا المعلومات والاتصال. فأقمارهم الصناعية تجوب سماوات العالم من أقصاه إلى أقصاه على مدار الساعة موفرة لهم كل وسائل الاتصال والرصد الحديثة الخارقة للحدود وعلى رأسها شبكة الانترنت التي تعتبر أخطر وأسهل أدوات المعرفة والمعلوماتية، فهي تربط المعمورة بعضها ببعض على شكل شبكة عنكبوتية غاية في التعقيد والتغلغل. زد على ذلك طبعاً البث الفضائي الذي أصبح سهلاً للغاية بفضل الأقمار الصناعية.
وبينما كانت الحضارات القديمة الساعية إلى فرض نماذجها على أصقاع المعمورة تعاني من أزمة اللغة، فإن ما يجعل العولمة الجديدة أكثر قدرة على تطبيق ونشر إنجيلها هو اللغة الانجليزية التي أصبحت لغة الاقتصاد والتجارة والإعلام وحتى السياسة في العصر الحديث، والجميع يتهافتون على تعلمها. هل استطاعت أي حضارة سابقة فرض لغتها على العالم بالطريقة التي فـُرضت فيها الانجليزية؟ إن لغة الانترنت المسيطرة والمرشحة لمزيد من السيطرة ستبقى الانجليزية. ولا يكاد نصيب الصين من مصادر المعلومات ومواقع الانترنت يساوي جزءاً يسيراً مما تمتلكه أمريكا والغرب عموماً.
ولا داعي للتذكير بتغول النموذج الاقتصادي والتجاري الغربي إلى حد لم يشهد له التاريخ مثيلاً. وأرجو أن لا يقول لي أحد إن الدولار الأمريكي يتدهور شيئاً فشيئاً وأن الثراء الغربي مجرد أرقام قد تنهار كما تنهار الأسعار في أسواق البورصة، فيصبح أعلاها أسفلها. فهذا قد ينطبق على بعض الشركات الرقمية، لكن تبقى هناك حقيقة اقتصادية ساحقة ماحقة، وهي أن الناتج الاجمالي الأمريكي يزيد على أحد عشر تريليوناً من الدولارات. وهو مبلغ خرافي بكل المقاييس. أما تدهور الدولار فهو خطة اقتصادية مدروسة لخدمة الاقتصاد الأمريكي بالدرجة الأولى. وحتى لو انتهت العملة الأمركية كعملة قيادية في العالم، فإن اليورو الغربي سيحل محلها وليس أي عملة أخرى.
ونظراً لتوفر هذه المزايا الإعلامية واللغوية والاقتصادية الجديدة للعولميين الجدد فإنهم سيكونون أكثر سطوة ووطأة على العالم بمئات المرات من نظرائهم القدامى. وبالتالي من حق الفوكاياميين أن يتحدثوا عن توقف التاريخ لردح قد يطول كثيراً. ومن غير المفيد أبداً مقارنة العولمات القديمة بالعولمة الغربية الحديثة، لا ثقافياً ولا إعلامياً ولا اقتصادياً ولا تجارياً، فشتان بين الرغبة والواقع.