أحدث الأخبار
الأحد 29 كانون أول/ديسمبر 2024
لعّل حيفا قد رحلت…

بقلم :  نبال شمس ... 29.1.08

من الجولان الى الجليل الى حيفا, رؤية ورؤيا ما أبيت ان أفقدها في أروقة تيه الشمس عن المكان...ضباب حجب نظري, المطر لا يتوقف عن الهطول, يطرق على شبابيك السيارة طرقا شديدا. الساعة تقارب السادسة صباحا والنور ما زال محجوبا لا يظهر. لم أعرف من منا قاد الاخرين أنا أم السيارة أم الضباب او ربما الرياح والمطر, عدا عن الخوف الذي تملكني من الحيوانات العابرة من ضفة الى أخرى من الشارع, ففي الجولان تكثر في الشتاء الحيوانات التي تعبر الشوارع وخصوصا في الايام العاصفة لاسباب لا اعرفها, فكل ما عرفته في تلك اللحظات هو: كيف علي ان اصل الى حيفا قبل الثامنة صباحا.
أين الجولان وأين حيفا من ناحية المسافة والكيلومترات التي علي قطعها هذا الصباح, انها لمتاعب خفيفة لكنها ثقيلة جدا فأنا لست جولانية الاصل لكني أمارس جولانيتي كأي جولاني يعيش في الجولان.
الطقس يعصف بأمطاره ورعده, الطبيعة لا تتوقف عن المطر والريح. زهراء صديقتي تنتظرني في احدى محطات الجليل الأسفل لأقلها معي الى مكان دراستنا في حيفا, لكن يبدو ان العاصفة لن تهدأ وزهراء لن تنتظرني هذا الصباح. بدأ الضعف يتملكني عندما بدأت لا أرى الخط الابيض الذي يفصل الشارع الى نصفين, فأين ذهب ذلك الخط اللعين الذي كان يساعدني على السير في الاتجاه الصحيح وماذا حدث لحركة السير اليوم؟ يبدو انه لا سيارات ولا باصات على الشارع سوى انا وحدى وتلك العاصفة االلعينة التي لا اعلم لاين ستقودني.
تمنيت لو اني اجد سيارة واحدة لاسير خلفها او امامها لكن عبث بقيت وحدي في الشارع ابحث عن الخط الابيض وعن لافتة ترشدني الى الطريق. بدأ الخوف يتسرب الي فقد وجدت نفسي في شارع ضيق بالكاد يتسع لسيارتي, والحجارة السوداء على جانب الطريق تبدو واضحة في عتمة الضباب الرمادية, وبعض الاشرطة التي بدت لي شائكة جدا. أيقنت اني ظللت الطريق الذي أعرفه وان العاصفة اللعينة حجبت رؤيتي ورشدي وكم ازداد خوفي اضعافا عندما تخيلت اني قطعت الحدود الى سوريا.
هو الخوف نعم الخوف الذي اخذني بعيدا وجعلني اقطع حدود المكان والزمان , الخوف الذي سيطر علي في تلك اللحظات, الخوف باني عربية من عرب الاربعين ولست جولانية, فأن قطعت الحدود فأن ذلك لن يكون سهوا او ان احدا لن يصدق سهوتي.
اضعت الطريق وأضعت نفسي التي لا اشعر بها, فما اصعب ان تكون عربيا منتميا لعرب الثمانية واربعين وان تكون في ذات الوقت جولانيا ضائعا ما بين الوطن والدولة. هذه ليست مأساة بقدر ما هو تشتتا ما بين انتمائين او صراعين تعيش بهما. او وسطهما. والاصعب بان يتملكك الشعور بانك غير منتميا لا الى الجولان ولا الى الجليل.
هل ستبقى زهراء تنتظرني وتنتظر عودتي من تيهي ونهاية صراعي مع الضباب والمطر؟
هل ستبقى تنتظرني الى ان انهي صراعاتي مع الطريق والحجارة السوداء والشواراع الضيقة؟
زهراء ذات العيون الخضراء كزيتون الجليل والبشرة البيضاء كغيوم صيفيه, لا بد ان تبقى تنتظرني لاسمعها واصغي اليها, تنتظرني لتحدثني عن والدها العظيم الذي أحب اللغة العربية والادب, لتحدثني عن انكساراتها الصغيرة ونجاحاتها الجميلة, لكن زهراء لم تتصل هذا الصباح او ربما لان الوقت ما زال باكرا فهي معتادة ان تتصل عندما تقارب الساعة السابعة صباحا لتسألني اين انا, وكم من الوقت تبقى لي كي أصل اليها.
حالة الطقس لم تتغير بل ازدادت سوءا, وحالتي انا ازدادت توترا, فاين دخلت بسيارتي فحتى النافذة لا استطيع فتحها بسبب حدة الامطار والرياح.
عاصفة, شارع ضيق وحجارة سوداء هذا ما امتلكته وانا لا امتلك شيئا سوى ذاتي, حتى عودتي للخلف صعبة فانا لا استطيع ان الف السيارة واعود. فعلي ان اعود للخلف فقط بقيادة السيارة الى الوراء بالاتجاه العكسي. احد الاشياء التي اكرهها ولا اجيدها فكيف سأفعل ذلك والضباب يكسو المنطقة.
صراعي لم يعد مع الطبيعة بل مع نفسي وخوفي, فالطبيعة في الجولان تجعلك تعتاد عليها سريعا والا فقدت سمة جميلة من سماتك كجولاني للصراع مع قسوة الشتاء.
كل شيء كان خاويا وفارغا فقد شعرت اني في السماء بين الغيوم, لم يكن موتا او جنونا بل ان الضباب وازدياد حدته يجعلك ترى نفسك في السماء.
اصبحت لا ارى شيئا سوى بضعة حجارة سوداء, مهزلة من مهازل الطبيعة ان يختلط النور مع الضباب فأنه يعمي الابصار.
السيارة تعود الى الخلف, استطعت قيادتها الى الخلف او ربما هي التي قادتني الى الخلف.
الرجوع الى الوراء كان بمثابة الموت او السقوط على جوانب الطريق, فمن اصعب الاشياء ان تعود الى مكان وانت محجوب الرؤيا والرؤية, كأنك تمشي في المجهول الى سراديب المجهول. رويدا رويدا بدات المح اضواء السيارات, التي تعبر فايقنت اني عدت للطريق الصحيحة تنفست الصعداء وعدوت مسرعة نحو صديقتي الجميلة.
كانت الساعة تقارب الساعة السابعة والنصف كنت لا زلت على شوارع الجولان لكني كنت في الاتجاه الصحيح نحو جسر بنات يعقوب, فما ان تصل الجسر يتبدد الضباب فنادرا ما يتجمع في تلك المنطقة.
وصلت الى المحطة التي اعتادت ان تنتظرني بها صديقتي زهراء, لكن المحطة كانت خالية من المسافرين, لم يكن بها أحدا. فتشت عن زهراء وأنفاسها لكني ايقنت ان زهراء تركتني وسافرت في أول فرصة تستطيع بها ان تصل الى حيفا.
الجولان اصبح بعيدا والعودة للتو اليه سوف تكون نذير شر, أما الصعود الى الجليل سيجعل زهراء تسخر مني لاني فعلا فقدت الطريق الى الجليل, وفقدت الرؤية والرؤيا في طريقي الى حيفا.