أحدث الأخبار
الأحد 29 كانون أول/ديسمبر 2024
هل رفيق الحريري أهم من بناظير بوتو؟

بقلم :  د. فيصل القاسم ... 7.1.08

بعد لحظات فقط من مقتل عضو مجلس النواب اللبناني رفيق الحريري قبل أكثر من عامين بدأ الحديث فوراً عن إجراء تحقيق دولي في مقتله. وقد تنادى المتحمسون من لبنانيين وعرب وأمريكيين وفرنسيين بأعلى أصواتهم إلى رفع القضية فوراً إلى مجلس الأمن الدولي كي يشكل لجنة تحقيق دولية لمعاقبة الجهة التي قد تكون مسؤولة عن تفجير موكب الحريري. بل راح البعض مباشرة يطالب باستصدار قرار دولي مشفوع بالبند السابع الذي يجيز استخدام العمل العسكري لفرض المحكمة الدولية بالقوة. وقد عقد المسؤولون الأمريكيون والفرنسيون وقتها ما لا يُعد ولا يُحصى من مؤتمرات صحفية للتعليق على مقتل الحريري، وتجييش الرأي العام، والمناداة بالاقتصاص من قاتليه بشتى الطرق. لقد بدا العالم حينها مهووساً بتحقيق العدالة، وكأن قتل الحريري كان أول جريمة اغتيال على وجه المعمورة. ومن شدة الحزن الدولي المُفتعل على رحيله ظن البعض أن الحريري هو هابيل الأرض وشهيدها الأول.
لقد اغتيلت رئيسة الوزراء السابقة في باكستان بناظير بوتو بنفس طريقة اغتيال رفيق الحريري في لبنان. لكن شتان بين ردود الفعل الدولية على الحادثتين! آه كم بدا الوضع مختلفاً تماماً بعد مقتل بناظير بوتو! صحيح أن مجلس الأمن الدولي انعقد فوراً، وأدان الجريمة على عينك يا تاجر، لكن أحداً لم ينبس ببنت شفة حول ضرورة تشكيل محكمة دولية فورية لمعاقبة المسؤولين عن مصرع بناظير بوتو. لقد خرست الإدارة الأمريكية تماماً، وخرس معها المجتمع الدولي المزعوم.
لماذا لم نسمع مسؤولاً أمريكياً واحداً يتنطع إلى المطالبة بتشكيل محكمة دولية فوراً لمعاقبة قتلة بوتو ووضعها موضع التنفيذ؟ وإذا كانت رئيسة مجلس النواب الأمريكي قد طالبت على استحياء بمحكمة فهو لرفع العتب وذر الرماد في العيون لا أكثر ولا أقل، بدليل أن دعوتها لم تحظ بأي اهتمام إعلامي أو رسمي يُذكر، ومرت مرور الكرام كما أريد لها تماماً. أين عنتريات الرئيس الأمريكي جورج بوش وحماسه المفرط وهيامه الأسطوري ولوعته الشديدة وغيرته الجنونية على الحريري؟ لماذا لا نسمع له صوتاً مطالباً بمحكمة لبوتو؟ ألم يجعل بوش من محكمة الحريري شغله الشاغل منذ أكثر من سنتين؟ ألم يظهر في وسائل الإعلام أكثر من مائة مرة وهو يزبد ويرغي عن ضرورة المحكمة الدولية لقتلة الحريري. أين "المس" غونداليزا وموظفوها في وزارة الخارجية؟ أين جون بولتون السفير الأمريكي السابق إلى الأمم المتحدة الذي لم ينم الليل، ولم يغمض له جفن وهو يفكر بمعاقبة قتلة الحريري؟ لماذا ذرف الأمريكيون أطناناً من دموع التماسيح على دم الحريري، ولم يتكرموا على بوتو ببضع قطرات؟ ألم يقل زلماي خليل زاد سفير الولايات المتحدة الحالي لدى الأمم المتحدة مرحباً بتصويت مجلس الأمن على المحكمة: "إن المجلس أظهر التزامه بالمبدأ القائل إنه يجب ألا تكون هناك حصانة للاغتيالات السياسية في لبنان أو أي مكان آخر"؟ لماذا الحصانة إذن لقتلة بوتو؟ لماذا أعلنت أمريكا الحياد في الحدث الباكستاني، واكتفت برسائل التعزية وبعض الترحم على المغدورة بناظير؟
ألم تتبن بلجيكا وفرنسا وإيطاليا وسلوفاكيا والمملكة المتحدة قرار تشكيل المحكمة، ودعت إلى وضعه موضع التنفيذ فوراً؟ أين الفرنسيون أصحاب الشعار المضحك " حرية، عدالة ، مساواة"؟ أين بهلوانيات كوشنير وزير الخارجية الفرنسي "الطريف"؟ لماذا اكتفى بزيارة رفع عتب إلى إسلام أباد لذر الرماد في العيون؟ ألم يقل الإيليزيه بعد مقتل الحريري بالحرف الواحد: "إن عدم تشكيل محكمة دولية يعني تخلي الأسرة الدولية عن واجب الإنصاف والردع"؟ ألم يقل شيراك وقتها إن "إنشاء محكمة ذات طابع دولي يعتبر مركزياً وملحاً لتحقيق العدالة الدولية"؟ ألم يتعهد الرئيس الجديد ساركوزي بتوفير المال اللازم لإطلاق محكمة الحريري؟ لماذا لم نسمع مثل هذا الكلام الفرنسي الجميل بعد مقتل بوتو؟..أين منظمات حقوق الإنسان التي صدعت رؤوسنا بضرورة الاقتصاص من قتلة الحريري؟
لماذا ابتلع المجتمع الدولي المزعوم وأبواقه الإعلامية الببغائية بسرعة البرق فرضية أن تنظيم القاعدة هو المسؤول عن اغتيال بناظير بوتو، مع العلم أن القاعدة نفت نفياً قاطعاً تبنيها للعملية، بينما لم يصدقوا رواية "أبو عدس"، "الإرهابي الإسلامي" الذي أعلن مسؤولية تنظيمه عن مقتل الحريري؟ لماذا هذا التمييز العنصري بين "الإرهابيين الإسلاميين"؟ "حرام عليكو، والله حتزعلوهم".
هل لبنان أهم من باكستان صاحبة القنبلة النووية وواحدة من أكبر الدول الإسلامية في العالم؟ لماذا يريد العم سام تحقيق "العدالة" للبنان وهو من أصغر بلدان المعمورة وليس لباكستان الكبرى؟ أم أن دم الحريري الأزرق هو فقط من يستحق عناء البحث والتحقيق؟ هل رفيق أهم من بناظير سليلة البيت الباكستاني السياسي العريق؟ لقد بنى رفيق الحريري حي السوليدير في بيروت، لكن آل بوتو بنوا المفاعل النووي الباكستاني درة الكرامة الباكستانية والإسلامية. أيهما أهم؟
آه كم بدا الفرق شاسعاً بين الحكومتين الباكستانية واللبنانية بعد مصرع رفيق الحريري وبناظير بوتو. لقد تكالبت الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان على الاستنجاد بما يُسمى بالمجتمع الدولي والعدالة الدولية المزعومة، فأصبح المجتمع الدولي ربها، والمحكمة الدولية شريعتها، وجورج بوش نبيها، لا بل أقامت للمحقق الدولي الأفراح والليالي الملاح في ملاهي بيروت. صحيح أن زوج بناظير بوتو طالب بمحكمة دولية على غرار محكمة الحريري، وصحيح أن الرئيس الباكستاني برويز مشرف طلب مساعدة من الشرطة البريطانية للتحقيق في مقتل بوتو، لكنه رفض رفضاً قاطعاً تشكيل محكمة دولية على شاكلة محكمة الحريري تبتز باكستان لسنوات وسنوات، كما رفض أي مشاركة دولية في التحقيقات الجارية ذات الصلة بملابسات اغتيال بوتو، واعتبر أن المجتمع الدولي "لا يفهم البيئة" الباكستانية أبداً، بينما شرّع اللبنانيون أبوابهم لكل من هب ودب ليدلي بدلوه في "مناقصة" محكمة الحريري.
قد يتساءل البعض لماذا هذا الاستهزاء بتقاعس ما يسمى بالمجتمع الدولي عن تشكيل محكمة خاصة بمصرع بوتو، ثم الثناء على موقف باكستان الرافض للتحقيق الدولي. أليس في ذلك تناقض صارخ. الجواب طبعاً لا، فليس المقصود بالاستهزاء حث الأسرة الدولية المزعومة على تشكيل محكمة لبوتو، بل فضح ازدواجية العدالة الدولية التي تكيل بألف مكيال. أما التصفيق للموقف الباكستاني الرافض للمحكمة فهو لأنه يفضح تلك الازدواجية بشكل غير مباشر.
لا داعي أخيراًً لتفسير الماء بعد الجهد بالماء، فقد بات من البديهيات أن المحاكم الدولية تـُشكل لأغراض ليس من بينها أبداً تحقيق العدالة للمغدورين، بل لأغراض سياسية مفضوحة، أو ربما للتغطية على المجرم الحقيقي، هذا إذا لم يكن الجاني هو نفسه المدعي العام. هل يريد المتهافتون على تفعيل محكمة الحريري مثلاً إنصاف لبنان أم تخريبه واستباحته، ناهيك عن تمرير مشاريع جهنمية في المنطقة؟ ولو توافرت متطلبات مخططهم في باكستان لما توانوا لحظة واحدة عن تشكيل محكمة لبوتو على جناح السرعة، لكنهم لن يعدموا الوسيلة لتخريب باكستان بغير المحكمة الدولية، فما أكثر وسائل الفوضى المهلكة! فهم لا يكتفون بالاغتيالات الكبرى، بل يستغلون دم أصحابها لتدمير بلدان بأكملها. وهذا هو الفرق بينهم وبين الحيوانات المفترسة، فالحيوان الضاري يقتل ليأكل، أما هم فيقتلون ليصنعوا من دماء ضحاياهم وصفات وأدوات للقتل والتقتيل.