أحدث الأخبار
الأحد 29 كانون أول/ديسمبر 2024
هل الإعلام موبوء كي يحجروا عليه في مدن إعلامية معزولة؟

بقلم : د.فيصل القاسم ... 23.12.07

تنتشر في العالم العربي منذ سنوات كانتشار النار في الهشيم ظاهرة المدن الإعلامية. والبعض يسميها ضحكاً على الذقون "مناطق إعلامية حرة"، فهي في ازدياد مستمر وتكاثر فطري. ومن المتوقع أن يرتفع عددها ليصبح بعدد الدول العربية أو أكثر. وتحتضن تلك المدن والمناطق مقرات ومكاتب مئات الصحف والمجلات والقنوات الفضائية والأرضية العربية والدولية.
قد يأخذ البعض الانطباع أن إطلاق تلك المدن الإعلامية وتخصيص مناطق حرة لوسائل الإعلام هما خطوة حضارية، ومحاولة صادقة لإفساح المجال للإعلام كي ينشط في عالمه الخاص، بعيداً عن التأثيرات والضغوط المحلية والدولية. وكم كنا نتمنى لو أن الهدف هو فعلاً تحرير وسائل الإعلام ومنحها مناطق حرة لتصول وتجول على هواها، كون الحرية أوكسجين الإعلام الأول والأخير. لكن، ومع الأسف، فإن المدن الإعلامية تهدف، في واقع الأمر، إلى عكس ما يوحي به اسمها. أي أن الغرض منها التضييق على وسائل الإعلام، وحبسها في أماكن محددة لضبطها في أطر معينة، خاصة أن تلك المدن مكبلة بسلاسل من القيود والشروط والضوابط، وحتى يصعب الدخول إليها.
هل الإعلام العربي موبوء، أو مصاب بمرض الجذام أو الجرب أو الجدري أو السل، وغيرها من الأمراض المعدية كي يوضع في حجر صحي يسمونه مجازاً مناطق إعلامية؟ الواضح تماماً أن الأنظمة العربية الحاكمة ما زالت ترى في وسائل الإعلام مرضاً معدياً أو خطراً يجب تطويقه بأسياج وحيطان وجدران عالية.
لقد هرشت السلطات العربية رؤوسها، وتساءلت: كيف يمكن ضبط الثورة الإعلامية التي أطلقتها العولمة؟ كيف يمكن الظهور بمظهر المواكب للثورة المعلوماتية، وفي الوقت نفسه أضبط إيقاع تلك الثورة بطرق غير مباشرة؟ كيف أتعامل مع عصر ظاهرة خوصصة الإعلام المتنامية بشكل مذهل، ولا أبدو معرقلاً لإعلام السوق، أي القائم على المبدأ الحر، العرض والطلب؟ كيف أتعامل مع هذا الكم الهائل من وسائل الإعلام المتعددة الوسائط التي تتكاثر كالفطر، وأبقيها تحت السيطرة؟ وجدتها، وجدتها: لماذا لا أبني لها مناطق خاصة في أماكن جميلة مسيجة وبعيدة عن وسط المدن، وأسميها "مناطق حرة"، فأبدو مواكباً للعصر؟ هل سمعتم بمدن إعلامية في بقية أصقاع العالم؟ هل هناك في بلاد الديمقراطية الحقيقية أي مجمعات إعلامية معزولة؟ أليس من الغريب أن ظاهرة المدن الإعلامية ظاهرة عربية بامتياز؟
كيف نصدق أن غرض هذه المدينة أو تلك تحرير الإعلام وإطلاق العنان له إذا كانت السلطات في البلد الذي يحتضن إحدى المدن الإعلامية يكمم أفواه الصحفيين، ويسجنهم، ويطلق فتاوى لجلدهم وشيطنتهم لمجرد أنهم تحدثوا عن صحة الزعيم، أو تناولوا بعض القضايا البسيطة؟ كيف للمرء ألا يتعجب من هذا النفاق المفضوح؟ كيف نتفاخر بالمدينة الإعلامية مترامية الأطراف ومبانيها الفخمة والهائلة، ثم نضيق الخناق على الصحف خارج المدينة؟ أليست الحرية الإعلامية كلاً لا يتجزأ؟ وأرجو ألا يظن البعض أن المؤسسات الإعلامية داخل المدن الإعلامية حرة طليقة، فهي تخضع لمراقبة صارمة ومهددة بالطرد في أي لحظة تحت مزاعم ودعاوى وحجج معدة مسبقاً في حال صدرت الأوامر للتخلص من هذه الوسيلة أو تلك. ولا داعي لذكر اسم القنوات التي طارت من بعض المدن "الحرة" في ليلة ليلاء بحجة دعمها للمقاومة العراقية، أو بعد أن زعل العم سام من تلك المدينة واستضافتها لبعض الفضائيات المقاومة.
أما في الأردن فقد فشلت المدينة الإعلامية في استضافة أول فضائية أردنية خاصة، وهي فضائية "الغد" بعدما كانت قد طبلت وزمرت المدينة لنفسها لشهور وشهور. لقد ماتت التجربة في مهدها، ولا أدري كيف يمكن لأي وسيلة إعلام تحترم نفسها أن تقدم على البث من تلك المدينة الإعلامية بعدما أخفقت في أول امتحان لها، ولا شك أن القائمين على بعض المشاريع الإعلامية الأجنبية التي تبحث لنفسها عن سقف سيتساءلون: كيف سيسمحون لنا بأن نمارس بعضاً من الحرية إذا كانوا في الأردن غير قادرين على تحمل فضائية وطنية خاصة شحماً ولحماً، فوأدوها في مهدها بعد أن أنفق عليها ممولوها ملايين الدولارات؟
ليست العبرة أبداً في بناء مجمعات فخمة مجهزة بأحدث التكنولوجيا والمعدات والأجهزة الإعلامية الباهرة، بل في الإيمان الحقيقي بحرية الإعلام. ما الفائدة أن أبني ناطحات سحاب إعلامية، ثم ألجأ إلى إغلاق هذه الفضائية أو تلك عندما أتعرض لبعض الضغوط من هذا الجانب أو ذاك؟ أليست عمليات إغلاق بعض القنوات العاملة في بعض المدن الإعلامية العربية بسرعة البرق دون حتى إبداء الأسباب لإرضاء هذا النظام أو ذاك كمن يطلق النار على رجليه؟ ألا تؤكد مثل هذه الإجراءات التعسفية أن الهدف من تلك المدن "المعزولة" ليس تسهيل عمل المؤسسات الإعلامية، بل ضبطها والتحكم بها،لا بل تدجينها؟ لماذا لم نشهد ظهور أي وسيلة إعلام عربية خارجة على السرب في تلك المناطق الحرة المزعومة؟ أليس من الغريب أن بعض الفضائيات الحرة نسبياً تعمل خارج أسوار المدن الإعلامية التي تدّعي الحرية؟
صحيح أن كل الصحف البريطانية كانت تصدر من منطقة واحدة، ألا وهي شارع "فليت ستريت"، شارع الصحافة الشهير في لندن، لكن ذلك الشارع لم يكن رمزاً مزيفاً للحرية الإعلامية بأي حال من الأحوال كمناطقنا الإعلامية "الحرة"، بل كان عنواناً للصحافة المتحررة فعلاً، بدليل أن الصحف والصحفيين العاملين فيه كانوا يتفاخرون بأنهم يعملون في تلك المنطقة ذائعة الصيت، لا بل إن الصحف كانت تبحث لنفسها عن موطئ قدم في ذلك الشارع العريق، حتى لو دفعت مبالغ طائلة، تيمناً باسمه وسمعته.
الإعلام ليس مرضاً معدياً ليتم سلخه عن المجتمع والشعوب في جيوب معزولة، بل هو في صلب الحياة والناس، وأن قفصه في مناطق مسوّرة محاولة مفضوحة لإخصائه وتطويقه وعزله. كيف يمكن لوسائل الإعلام أن تنشط داخل أقفاص؟ ألا تمتنع بعض الطيور الأبية عن التفقيس داخل القفص؟ أليس مجرد حصر تلك الوسائل داخل محميات، أليست محاولة غير مباشرة لخنقها وتكبيلها؟ أليس القفص رمزاً للقمع وكبت الحريات؟ هل هناك فرق بين أساليب وزارات الإعلام العربية في تدجين وسائل الإعلام وبين أساليب المدن الإعلامية أو المناطق الحرة المزعومة؟ أم تعددت أساليب الرقابة والنتيجة واحدة!!!