أحدث الأخبار
الأحد 29 كانون أول/ديسمبر 2024
الورقة البيضاء !

بقلم :  ميسون أسدي ... 20.11.07

بدت "رابعة" مذعورة في تلك اللحظة، وتغيرت ملامحها العربية الأصيلة التي كانت تنم دائما عن بساطة تبعث الطمأنينة لمن حولها، وبدت كأنها تلقت خبر وفاة شخص عزيز عليها، وبلحظات أخذ عقلها يعمل بسرعة.. ماذا ستفعل الآن، كيف ستخرج من هذه الورطة، كيف سمحت له باصطيادها بهذه السهولة وتقع فريسة له وهي التي وثقت به.. أرادت في تلك اللحظة أن تلطم وجهها، لكنها خافت من الفضيحة.. لم تذرف دمعة رغم حاجتها للبكاء.. ماذا ستقول لوالدها.. كم ستبدو بلهاء أمام زملائها الطلبة، وهي التي كانت تفرض احترامها على الجميع، بذكائها وصراحتها وثقتها بنفسها..
بدأت تراجع نفسها " يا لغبائي.. ماذا افعل الآن.. خلصني من هذه الورطة يا ربي.. اعتذرت منه ولم يأبه لي، حدثته بشكل إنساني ولم يعرني اهتمامه، حزنت أمامه فزادت عربدته، ماذا أفعل؟
"رابعة" هي آخر العنقود، المدللة بين شقيقاتها، فقد حظيت بحب والدها الذي لم يرفض لها طلبا، وهو الذي شجعها بأن تكمل دراستها الجامعية، حصلت على اللقب الأول بالعلوم السياسية ولم تكتف بذلك،فشجعها والدها على دراسة موضوع الصحافة في جامعة "تل أبيب"، وساعدها بالبحث عن مسكن لتكون قريبة من جامعتها..
دراسة الصحافة، لم تكن امرا سهلا، فعلى الطالب أن يكون حاصلا على لقب أول بموضوع آخر، وعليه أن يمر من خلال لجنة صحافيين وأكاديميين لفحص إمكانياته وقدراته في هذا المجال.. إجتازت "رابعة" لجنة الفحص بتفوق، لكنها لم تدر أنها ستواجه مسؤولية كبيرة، فمدرسو هذا الموضوع هم خيرة الأساتذة في مجال الصحافة المكتوبة والمرئية والأمن والقانون، وهم أمهر الباحثين الذين يزودون المخابرات بالمعلومات الأمنية الدقيقة عن العرب.. والأنكى من ذلك أنها العربية الوحيدة في الصف، والأنكى من الأنكى أنها أنثى.
"رابعة" ابنة الـ 25 عاما أصبحت محط أنظار الطلبة ونالت احترام الجميع بما فيهم الأساتذة، فحتى عندما كانت تعترض على ما يقال داخل الصف، كانوا يحترمونها رغم معارضتهم لها، وقد حاول البعض التقرب منها، لكنها كانت ترفض بلباقة وتحافظ على مسافة بينها وبين الجميع.. وحده "روبين"، استطاع كسر الحاجز الذي فرضته.. فهو يجلس الى جانبها على نفس المقعد وبإلحاح وتودد مستمر، كسب صداقتها، بعد أن جعلها تشعر بأنه يفضلها عن الآخرين.. تطورت العلاقة بين "رابعة" و"روبين"، كان يهاتفها باستمرار ويسأل عن حالها وعن سير دراستها، ودعاها مرارا إلى بيته للدراسة.. كان يحاول الحصول منها على أكثر من صداقة عابرة، لكن محاولاته ذهبت عبثا، لأن رابعة كانت ترفض رفضا تاما العلاقة العاطفية مع شخص غير عربي.
عروبة "رابعة" بارزة للعيان، ببشرتها السمراء الناعمة، شعرها الطويل الأجعد يتهدل على كتفيها، قوية الجسد، تمشي بخيلاء في الحرم الجامعي مع شال مطرز بتطريز فلسطيني ملقى على كتفها، يخفي نصف ظهرها الأسمر العاري ويتدلى من الأمام ليخفى جزءا من صدرها القوي الناهد المندفع.
كانت الحصة الثانية، عندما توجه المحاضر بغطرسة إلى الطلاب، يسأل كل واحد عن موضوع البحث التقريري الذي سيعمل عليه خلال هذا الأسبوع. بدأ الطلبة المضطربين إعلان مواضيعهم على التوالي، ويقوم المحاضر بتسجيل ملاحظاته على دفتره الكبير، وأحيانا كان يقاطع الطالب ويسأله عن موضوعه بضعة أسئلة لا تخلو من الاستهزاء بقدراته، فهذا سيبحث موضوع تلويث البيئة وعمل الجمعيات الخضراء، وذاك سيفحص موضوع الفقر في أحياء تل أبيب الجنوبية، وتلك ستبحث موضوع الترفيه في المقاهي الليلية وهكذا.. إلى أن جاء دور "رابعة"، فقالت بلغة عبرية صحيحة مطعمة بلكنة عربية قوية- كانت تفعلها بقصد للتشديد على عروبتها، وهي تعرف تماما أنها الوحيدة التي تلفظ الكلمات العبرية على أصولها فمعظم اليهود حملوا لكنات بلادهم التي أتوا منها ولم ينطقوا الأحرف العبرية كما يجب قالت: سأبحث موضوع " المواد المبيدة لصراصير البيت"، فأنا أكره هذه النوع من الزواحف وهي تثير اشمئزازي.. أريد التوصل إلى أسرع وأضمن طريقة للتخلص منها، بدون رائحة وضرر للإنسان..
وعندما توقف المحاضر عن استجوابها حول موضوعها، دنا منها زميلها روبين وهمس لها ضاحكا: هل تقصدين "صراصير رفائيل إيتان"؟
لحظة عزيزي القارئ.. "رفائيل إيتان" هو جنرال إسرائيلي كان له ضلع كبير في مذبحة "صبرا وشاتيلا" وهو صاحب المقولة العنصرية الشهيرة: "العرب صراصير ويجب وضعهم في قارورة وإقفالها بإحكام حتى لا يتكاثروا"!
اعتبرت "رابعة" قول زميلها، مزحة ثقيلة، فردت عليه بنفس طريقته وبهمس: هل تريد سكينا مغروزا في ظهرك؟
فأجابها روبين هامسا: لم أسمعك بوضوح.. اكتبي ماذا تريدين على هذه الورقة البيضاء.. فكتبت له "رابعة" بسرعة وبدون تركيز وعيونها باتجاه المحاضر: هل.. تريد.. سكينا.. مغروزا.. في.. ظهرك؟
سألها روبين ثانية وبصوت أعلى: لماذا تقولين لي ذلك؟! فأجابته: أنت تصف العرب بصراصير إيتان وهو إنسان عنصري مقيت، وأنا أجبتك بنفس العملة..
توقفت المحادثة بين رابعة وروبين، وشعرت رابعة بشيء غريب في حركاته.. نظر شمالا ويمينا، وأخذ يطوي الورقة البيضاء بعناية، التي كتبت عليها بخط يدها،ووضعها داخل كتابه، ثم وضع الكتاب داخل حقيبته.. نظرت إليه، فأغرب وجهه عنها.. عندها فقدت صبرها وقالت له: لماذا وضعت الورقة في محفظتك؟!
-لا استطيع الحديث معك الآن..
-لماذا؟..
-نلتقي في المحاكم..
- ماذا!؟، أية محاكم؟..
-أنت هددتني بالقتل!
- أنا؟؟!!
- نعم، وعندي إثبات بخط يدك..
شعرت رابعة بخوف حقيقي وكبير، ولم تع كيف تتصرف، وقالت له متلعثمة:
-أنا مزحتُ معك، مثلما مزحتَ أنت معي، لا يمكنك أن تحوّل المزح إلى جد..
-أنا امزح في كل شيء ولكن عندما يصل الأمر إلى تهديد حياتي فانا لا أقامر..
-أنا لم أهددك!!
-اثبتي ذلك في المحكمة..
-روبين أرجوك! هل أنت جاد.. أنت تخيفني..
-نعم أنا جاد، ومبدئي في الحياة هو: إذا بكت أم يهودية فستبكي مقابلها أربعون أما فلسطينية، هل تريدين أن أوضح لك أكثر!
- كفاك.. لا حاجة للتوضيح..
تذرع "روبن" بأن القضية مبدئية ولن يتراجع عن مسعاه.. وفي تلك اللحظة، أعلن المحاضر عن انتهاء الدرس، وبدأ الطلبة بالخروج إلى الاستراحة، وخرج روبين أيضا ومن بعده رابعة، التي توجهت مباشرة إلى مراحيض النساء، وما أن دخلت حتى بدأت بضرب رأسها بالحائط وهي تحول منع نفسها من البكاء، بسبب ورطتها.. بعد لحظات معدودة خطرت على بالها فكرة، وعلى الفور، عادت الى غرفة الدرس.. وما هي سوى لحظات حتى كانت تتمشى وتقضم شطيرة وكانت هادئة تماما، كأنه لم يحصل شيء، الأمر الذي لم يرق لروبين وهو يحدجها بنظره من بعيد، فتوجه إليها وطلب أن يحدثها على إنفراد..
ماذا تريد مني؟- قالت رابعة وهي تسير معه مبتعدة عن زملائها
- فأجابها روبين: جئت أحذرك قبل أن أتوجه إلى الشرطة..
لماذا تحذرني.!.اذهب وبلغ عني، فأنت إنسان مبدئي- أجابت وهي مطمئنة جدا، مما أثار غضب روبين وقال بحدة: بإمكاننا إنهاء القضية بيننا..
-كيف؟
-ادفعي لي مالا وأعطيك الورقة..
نظرت رابعة الى روبين مستغربة وقالت له بلهجة ساخرة لم تعجبه:كم تريد
وبعد ان سمعت اقتراحه الذي وصل الى مائتي الف شيكل..ضحكت بصوت مجلجل وقالت بتلذذ
سأدفع لك مائتي شاقل..
فقال لها وهو مغتاظ جدا: هل تعتقدين بأن كرامتي ومبدئي يساويان هذا المبلغ البخس؟!
أجابت رابعة بكل جدية: بالطبع لا.. فهذا سعر ملابسك فقط، لأن ما ذكرتهما لا يساويان فلسا واحدا..
نظر روبين إليها وهو لا يدري كيف يجيب، فهي لم تعدد خائفة ولم تعد تتوسل كما كانت من قبل. وقبل ان ينصرف منفعلا قال لها وهو يصطنع الهدوء.. حسنا...سألقنك درسا لن تنسيه طوال عمرك.. وتركها وهي ما زالت تبتسم بهدوء تام..
بدأ روبين يشكك في قدرة مفعول الورقة التي بحوزته من الناحية القانونية.شعور النقمة أخذ يزداد عنده وراح يبحث عن طريقة لإيذائها..سأقوم بفضحك يا "رابعة" أمام الطلاب والمحاضر، وسيتم محاكمتك في لجنة الطاعة الجامعية، وربما يطردونك من التعليم..
داخل الصف، وفي الحصة ما قبل الأخيرة، طلب روبين من المحاضر حق الكلام، وعندما وقف ليتكلم، كان يحمل بيده دفتره وتطل منه الورقة البيضاء.. نظر إلى "رابعة"، فرآها ما زالت تبتسم.. وبدأ حديثه بتوتر شديد: أن الطالبة العربية "رابعة" تكره اليهود وتطلق شعارات عنصرية ومعادية، وهي تقول ذلك أمامي، ولكنني كنت أحوال دائما ردعها وثنيها عن آرائها المسبقة، لكنها اليوم تمادت كثيرا ولم أعد أحتمل ذلك.. لذلك قررت أن أعلمكم بحقيقتها..
كان الطلبة والمحاضر ينظرون إلى روبين غير مصدقين كلامه، أو بالأحرى لا يريدون تصديقه، وعندما أنهى حديثه، طلب المحاضر من "رابعة" أن ترد على اتهامات روبين.. فقالت وهي ما تزال جالسة.. إن ما قاله روبين هو على العكس تماما، فنحن أصدقاء وهو يتودد لي دائما، وعندما سألني اليوم، إذا كنت أرفض إقامة علاقة عاطفية معه لأنه يهودي، أجبته بطريقتي الخاصة، بأن قلبي أبيض ولا يضمر البغضاء لأحد..
نظر المحاضر إلى روبين يريد تفسيرا لما قالته رابعة، وكذلك فعل جميع الطلبة.. فما كان من روبين، إلا أن ابتسم ابتسامة صفراء وقال وهو يفتح الورقة أمام أعينهم: أنتم لا تصدقونني.. هذا هو الإثبات وبخط يدها..
تمعن المحاضر بالورقة مستغربا وكذلك الطلاب الذين ما لبثوا ان انفجروا ضاحكين..فأي اثبات هذا الذي تمثله ورقة بيضاء.
وفهم روبين أن رابعة كانت قد تسللت خلال الاستراحة الى غرفة الصف حيث ترك حقيبته..
[ حيفا ]