بقلم : خالد الحروب ... 22.11.07
إحدى جرائر حكاية مؤتمر أنابوليس الفارغة من المضمون أنه أجل مواجهة الأجندة الفلسطينية الأكثر إلحاحاً وأدخل الفلسطينيين في حالة من انتظار المجهول: الكل ينتظر، لكن الكل لا يعرف ما هو المنتظر؟ أتاح مؤتمر أنابوليس مسوغاً لتبرير الانتظار، رغم أن جميع المنتظرين يدركون أن اليوم اللاحق على إنعقاد المؤتمر لن يختلف عن اليوم السابق على إنعقاده. ومع ذلك يتمترس الجميع بحبل الانتظار. الحكومة الفلسطينية في رام الله صارت أول من يدرك عبثية المؤتمر القادم، لأنها هي ولأن رموزها هم أكثر المطلعين على عنت وعجرفة وعنجهية الطرف الإسرائيلي الذي يحوم حول هدف إستراتيجي رئيسي هذه الأيام هو تكريس الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة. ورغم إدراكها، أي الحكومة لإنعدام المعنى والمضمون من هذا المؤتمر فإنها تمارس فن الانتظار، وتنتظر!
حركة حماس، وبعد خطيئة الحسم العسكري الذي قامت به في حزيران، وورطت الوضع الفلسطيني في مأزق أضاف شللاَ إضافياً على ما كان فيه من شلل تنتظر هي الأخرى، ولا أحد يعرف ماذا تنتظر. ماذا تنتظر حماس كي تقدم مبادرة تصحح بها ما قامت به؟ بعيداً عن التسويغ والتبرير وسرد تفاصيل الفلتان الأمني الذي سبق الحسم العسكري، فإن تصحيح الخطأ لا يكون بصب طوفان أخطاء فوقه. حماس وعبر الحسم العسكري ربما حلت مشكلة التنظيم وما كان يتعرض له من تهديد، لكنها فاقمت مشكلة الوطن وعرضته لتهديدات جمة، إنقسامية وغيرها.
حركة فتح بدورها تنتظر. الفلسطينيون انتظروها كي تحاسب نفسها، ثم تفاجأوا بها إذ وجدوها تمارس الانتظار هي الأخرى، لكن انتظار المجهول أيضاً. بعد خسارة الانتخابات أمام حماس لم يطر أي من رؤوس فتح الكبيرة التي يعرف ناس كثيرون أنها تسببت في الفشل، وخسرت فتح أن تستعيد صدقيتها في الشارع. وبعد خسارة المعركة مع حماس في قطاع غزة لم يطر أي من رؤوس فتح الكبيرة التي يعرف ناس كثيرون أنها كانت السبب في تدهور الأمور ووصولها إلى ما وصلت إليه في القطاع. وخسرت فتح مرة ثانية فرصة أن تسترد موقعها وصدقيتها عند جماهيرها، وآثرت خيار الانتظار!
الفصائل والتيارات والشرائح الفلسطينية التي كانت في الماضي تقوم على أقل تقدير بدور الإطفائية فتصلح ذات البين، وتصل بين فتح وحماس، سرعان ما دب الإحباط في أوساطها أيضاً، وبعد ان قامت بمحاولات خجولة، صعدت هي الأخرى لتقعد فوق كثبان رمل الانتظار. أما الشعب الفلسطيني المكلوم بأبنائه وقياداته، فهو أول المنتظرين وأكثر الفزعين مما سيؤول إليه هذا الانتظار المرهق.
لكن في اللاوعي السياسي لجميع هذه الأطراف لعب مؤتمر أنابوليس في الأشهر القليلة الماضية، ومازال، الدور الانتظاري المدمر. فقد خلق وهماً، أو فاصلاً زمنياً، تمكن من خلاله من تجميد الحركة السياسية، وشل أية مبادرة داخلية أو إقليمية لتحريك الوضع الداخلي الفلسطيني، وقطع الطريق على سيره نحو الترسخ والاستدامة. لم يتوقف ذلك المؤتمر على تخليق ذلك الوهم الانتظاري فحسب، بل أهم منه وأخطر حمل هدفاً أساسياً وكبيراً وهو ترسيخ الانقسام الضفاوي الغزاوي، واستثماره عبر التعامل مع السلطة الفلسطينية في رام الله وتناسي قطاع غزة ومن فيه.
وهكذا ومنذ تاريخ الإعلان عن نية عقد المؤتمر العتيد وضع شرط أمريكي-إسرائيلي أمام أبو مازن وحكومة سلام فياض ينص على عدم قبول إجراء حوار مع حركة حماس. وألحق ذلك الشرط بتهديد واضح ينص على أنه في حال تم فتح مثل ذلك الحوار فإن "الانفتاح" الأمريكي الغربي الإسرائيلي على الفلسطينيين سوف ينتهي، وتعود الأمور إلى ما كانت عليه أيام حكومة الوحدة الوطنية أو حكومة حماس قبلها، حيث الحصار والتضييق السياسي والدبلوماسي والمالي. المعنى العملي لذلك تأخير أي تحريك للأجندة الفلسطينية الداخلية، وهو ما لا يمكن تأخيره، لعدة شهور إضافية. ولتعمل هذه الشهور على ترسيخ الوضع الانقسامي وخلق وقائع جديدة على الأرض، فتفرك إسرائيل يديها بأنها تخلصت من قطاع غزة كما كانت دوماً تحلم وتخطط، وبأنها قصمت ظهر المشروع الوطني الفلسطيني عبر قطع الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية إلى نصفين متخاصمين. مقابل الانصياع لعدم الحوار مع حماس تكون المكافأة على ذلك التأخير هي عقد المؤتمر، إن عُقد، ولا يهم ماذا سيناقش ولا ماذا سيتضمن أو ما ينتج عنه: المهم هو الانعقاد بحد ذاته.
والغرابة في سياسة كهذه يسبقها فشلها، والغرابة في عقد مؤتمر كهذا يكون الفشل فيه أو الواصلين إليه من المدعوين، وأول الجالسين في صدر قاعة الإجتماعات، أنها تتم ويتم التعامل معها وكأنها سياسة حقيقية لا صورية. أنابوليس مؤتمر صورة وإعلام ومصافحات، لا علاقة له بالتفاوض أو التقدم خطوة بأي اتجاه. ما تريده الولايات المتحدة من ورائه هو مجرد الانعقاد، حتى تقول لنفسها أولاً ثم لغيرها أنها ما تزال تشتغل على الملف الفلسطيني، وأنها لم تغرق كلية في الملف العراقي الملتهب أو الإيراني الذي يشي بالالتهاب هو الآخر. تريد واشنطن، ربما، أن تقدم بين يدي حربها القادمة ضد إيران صدقية مؤتمر يرشو الفلسطينيين بصور أمام كاميرات التلفزيون قبل أن يغادروا عائدين مصدومين من نتيجة الانتظار!
ما لا يريد كثيرون سماعه هو أن حالة الانتظار المصطنعة هذه هي للهروب من القضية الملحة الأهم وهي إعادة اللحمة الوطنية، والحوار مع حماس والاتفاق على أجندة وطنية وبرنامج سياسي موحد. ليس هناك من حل على صعيد داخلي غير الحوار بين فتح وحماس، إلا إن كان لدى أي منهما النية الكاملة والمبيتة والقدرة الفائقة للقضاء على الأخرى قضاءً مبرماً! وما دام الحوار هو الحل الذي لا "مهرب" منه، فلماذا يتم تأخيره ولماذا يُترك للزمن والأحداث ولأصوات التطرف وللأطراف التي لها مصلحة في هذا الانقسام، وسوى ذلك كثير، أن تعمل عملها في حقن مزيد من العفن في هذا الوضع المتعفن؟ إن كان لدى أي طرف من الأطراف حل غير الحوار فليأت به وليطرحه. لكن في ذات الوقت هذا لا يخفف من مسؤولية حماس ولا يقلل من إلحاح الطلب عليها بأن تقوم بإصلاح ما خربته. عليها أن تتوقف عن الانتظار، كما على فتح، وكل الأطراف الفلسطينية. الانتظار هو اللعبة الخطرة الآن، التي تستغلها إسرائيل لتستمر في شطب بنود الوجود الفلسطيني بندا بنداً، وآخرها ما يتضمنه من شطب المطالبة باعتراف فلسطيني بأن إسرائيل دولة لليهود في العالم!