أحدث الأخبار
الأحد 29 كانون أول/ديسمبر 2024
هكذا يطارد الموت الفلسطينيين في غزة !!

بقلم : صالح النعامي ... 1.12.08

رغم صعوبة وضعها الصحي، إلا أنه كان من المفترض أن تعود فادية الظاهر ( 55 عاماً ) الى بيتها بعد أن تمر في عملية غسيل كلى اعتيادية في المستشفى، فهذه السيدة المصابة بفشل كلوي اعتادت على زيارة مستشفى " شهداء الأقصى "، وسط قطاع غزة ثلاث مرات اسبوعياً لنفس الغرض، ثم تعود للبيت. لكن نجلها أمين الذي كان يرافقها أصيب بالذهول عندما تبين له أن التيار الكهربائي قد انقطع عن المستشفى وأن أجهزة توليد الكهرباء غير قادرة على العمل لعدم توفر الوقود اللازم لتشغيلها، حيث نفذ مخزون قطاع غزة من الوقود بفعل الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل.في هذه الأثناء كان وضع فضية يزداد تدهوراً، وأصبح أمين يتحرك في الممر المؤدي الى الغرفة التي كانت تتواجد فيه أمه كالثور الهائج. اقترحت عليه أخته تهاني التي كانت بالقرب من سرير أمها أن يقوم بنقلها الى مستشفى آخر في مدينة غزة، وعندما اتصل بهذا المستشفى تبين أنه لا يوجد فيه ثمة متسع لها، وبعد بعض الوقت أخبرت الممرضة أمين أن أمه فقدت الوعي، وبعد ساعة قرر أحد الإطباء أنها قد توفيت. ما حدث مع هذه السيدة هو صورة مصغرة لما ينتظر للمئات من الأشخاص المصابين بأمراض مزمنة في قطاع غزة بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وتعطل التجهيزات الطبية. خليل الكرايمه ( 59 عاماً )، الذي يقطن في قرية " القرارة "، جنوب القطاع، كاد يفارق الحياة الجمعة الماضي. فهذا الرجل المصاب بالربو داهمته فجأة نوبة من ضيق التنفس الحاد، وعلى الرغم من أنه كان يحتفظ في منزله بجهاز لضخ الأوكسجين، إلا أنه لم يكن بالإمكان استعماله، حيث أن التيار الكهربائي كان مقطوعاً عن الحي الذي يتواجد فيه منزل العائلة. ومن حسن حظ الكرايمة أن عائلة صديق نجله البكر سامي تملك مولد كهرباء فأتصل بهم وطلب منهم تشغيله على جناح السرعة، وجلب والده في سيارته الى منزل صديقه حيث تم تشغيل جهاز ضخ الأوكسجين لينجو خليل بعد أن كاد يلفظ آخر أنفاسه.
الموت بالجملة
الكثير من الفلسطينيين الذين يضطرون لنقل مرضاهم للمستشفيات يشعرون بيأس شديد لتعاظم الشعور بعدم الثقة إزاء قدرة هذه المستشفيات على توفير العلاج اللازم.وزير الصحة الفلسطيني باسم نعيم توقع حدوث وفيات " بالجملة " في أوساط المرضى الراقدين في مستشفيات القطاع بسبب انقطاع التيار الكهربائي بشكل مستمر. وأكد توقف محطات الأكسجين المركزية التي يحتاجها المصابون بالأمراض الصدرية عن العمل بشكل شبه كلي, الى جانب توقف أجهزة تعقيم الأدوات والمستلزمات الطبية اللازمة للعمليات الجراحية, بالإضافة إلى أجهزة بسترة وتعقيم الحليب المعد للأطفال المرضى. وتوقع أن تتوقف عشرات أجهزة التنفس الصناعي في أقسام العناية المركزة عن العمل تماما, مما قد يؤدي حتماً إلى وفاة الكثير من المرضى هناك. وشدد نعيم على ان خطراً حقيقياً بات يتهدد حياة مئات المرضى الذين يرقدون في غرف العناية المكثفة, ومئات الأطفال الرضع حديثي الولادة االذين تستقبلهم الحضانات في المستشفيات بسبب انقطاع التيار الكهربائي وفشل مولدات الكهرباء الرئيسية في معظم مستشفيات القطاع في إمداد كافة الأقسام بالكهرباء اللازمة لتشغيلها. وأشار الى أن أزمة الكهرباء ونفاد الوقود تتسبب بتوقف محطة الأكسجين المغذية للأقسام المختلفة في المستشفيات وتوقف وحدات القلب وأقسام العلاج الطبيعي وتشريح الأمراض. وأضاف " طالما أطلقنا نداءات استغاثة متكررة تنذر فيها بإمكانية وقوع الكارثة الصحية جراء استمرار الحصار الجائر على قطاع غزة و والذي أدى إلى نفاذ الكثير من الأدوية الأساسية والمهمات الطبية وتعطُل مئات الأجهزة الطبية الضرورية".
عودة مظاهر الحياة البدائية
الحصار، وما أعقبه من انقطاع للتيار الكهربائي أعاد الفلسطينيين الى أزمنة سحيقة، والى مظاهر الحياة البدائية، حيث عاد الناس هنا الى استخدام الحطب في انضاج الطعام. فمنذ أن ينبلج الفجر، تغدو عائشة ( 57 عاماً )، التي تقطن الى الشمال من مخيم " المغازي " للاجئين وسط قطاع غزة على ظهر عربة الحمار برفقة حفيدها محمد ( 10 أعوام ) الى بساتين البرتقال وكروم الزيتون التي تقع في تخوم المخيم، فيحرص الإثنان على جمع الحطب الذي يتكون عادة من قشور شجر الكينيا وحبيبات شجر السرو والأغصان التي تسقط من الأشجار التي تنتظم في سياجات البساتين والكروم، وذلك لاستخدامها في إنضاج الطعام. فلا يوجد لدى هذه عائلة عائشة المكونة من اثنى عشر نفراً غاز معد للطهو، الأمر الذي جعلها مجبرة على استخدام الحطب كبديل.
الذي يتحرك في شارع عمر المختار الذي يخترق مدينة غزة من الشرق للغرب يلاحظ بكل بساطة مظاهر خيبة أمل ترتسم على وجوه المئات من الناس الذين يتوجهون لتناول وجبة الإفطار في مطاعم الفول والفلافل بعدما تبين لهم أنها مغلقة بسبب نفاذ الغاز أو الخبز منها، مع العلم أن معظم هؤلاء الناس من الموظفين والعاملين الذين يفدون للمدينة من مناطق أخرى، وعادة لا يتناولون وجبات الفطور في البيت. أصحاب بعض المطعام القليلة التي فتحت أبوابها حذروا زبائنهم بأنه سيكون من المتعذر عليهم فتح أبواب مطاعمهم في حال لم يتم رفع الحصار ولم يتم ادخال الغاز والوقود اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء.
والذي يجعل قدرة المطاعم على العمل مستحيلة هو توقف الكثير من المخابز عن العمل، بحيث أن هناك نقصاً كبيراً في الخبز، ولا تستطيع المخابز التي لازالت تعمل توفير الخبز لمعظم المطاعم. وتتوقف المخابز عن العمل بسبب انقطاع التيار الكهربائي من جهة، وبسبب نفاذ الطحين، حيث أن المطاحن الفلسطينية متوقفة بسبب توقف استيراد القمح عبر المعابر التجارية بين اسرايئل والقطاع
التكيف مع المستحيل
الحصار أثر بشكل غير مسبوق على أساليب الحياة للفلسطينيين، ودفعهم للتكيف معه وموائمة كل مناشطهم اليومية مع الظروف المستجدة، وهناك الكثير من صور تكيف الفلسطينيين لأنماط حياتهم في ظل انقطاع التيار الكهربائي الناجم عن الحصار الخانق. ففي حي " بركة الوز "، وسط قطاع غزة يتجمع كل ليلة عدد من الرجال في كشك مشيد بجريد النخيل وسعفه مقام وسط أحد كروم الزيتون، يتحلقون حول موقد النار يطلقون النكات ويتبادلون أطراف الحديث، ويطلعون بعضهم البعض على آخر المستجدات في الشأن الداخلي، هكذا هؤلاء الرجال السهرات منذ أن شرعت شركة توزيع الكهرباء في قطع التيار الكهربائي لساعات طويلة، أثر توقف محطة توليد الكهرباء الوحيدة عن العمل إثر منع اسرائيل وصول امدادات الوقود الخاص بها. عامر بريك ( 42 عاماً ) والذي يعكف على قضاء السهرة يومياً تقريباً في الكشك يقول أنه لا يحبذ العودة للبيت بعد أدائه صلاة العشاء في مسجد الحي. وقال ل " ويكلي " أنه لا يمكن " قضاء هذا الليل الطويل في ظل انقطاع الكهرباء في البيت، حيث لا يمكنك الجلوس أمام التلفاز، أو خلف الحاسوب ".. لكن الشبان اليافعين الذين تقل اعمارهم عن العشرين عاماً عادة ما يتوجهون الى مراكز المدن والميادين العامة خلال انقطاع التيار الكهرباء، حيث يتسامرون ويلعبون، وتشكو الكثير من العائلات التي تقطن بالقرب من هذه المناطق من الضوضاء والضجيج الذي يحدثه هؤلاء الشبان اثناء تواجدهم في هذه المناطق، حيث أنهم في الأغلب لا يعودون الى منازلهم إلا بعد عودة التيار الكهربائي. انقطاع التيار الكهربائي أثر بشكل واضح على صورة وطابع المجاملات بين الفلسطينيين. زيارات المجاملة التي يقوم بها الفلسطينيون لبعضهم البعض لتقديم التهاني أو التعازي لا تتم في الوقت الذين ينقطع التيار الكهربائي، وفي الغالب يتم تأجيل هذه المجاملات حتى يعود التيار الكهربائي. وفي كثير من الأحيان تتوجه بعض العائلات التي تعيش في مناطق تم قطع التيار الكهربائي عنها لزيارة اقاربها الذين يقطنون في مناطق لم ينقطع التيار الكهربائي فيها. أسامه أحمد الذي يقطن مخيم " المغازي " للاجئين عادة ما يصطحب زوجته واولاده ويتوجه لزيارة بيت صهره في مخيم " النصيرات " المجاور، حيث يتواجد التيار الكهربائي هناك في الوقت الذين ينقطع فيه عن المغازي، وفي المقابل يقوم صهره وعائلته بزيارته في الوقت الليالي التي يتم قطع التيار الكهربائي عن " النصيرات "، وهكذا. بالإضافة الى ذلك فقد أثر الواقع الجديد على الطلاب ونظام دراستهم في البيت. فمعظم الطلاب يحرصون على دراسة موادهم وحل واجباتهم البيتية بمجرد العودة من المدرسة وذلك حتى لا تفاجئهم عتمة الليل قبل أن ينهوا ما عليهم من واجبات. فليس كل العائلات الفلسطينية تملك مصابيح تعمل على الغاز، مع العلم أنه في كثير من الأحيان، فأن ليس كل من يملك مثل هذه المصابيح يملك غازاً بسبب نفاذ امداداته بفعل الحصار المشدد. في نفس الوقت فقد أثر انقطاع التيار الكهربائي على طبيعة النظام الغذائي للكثير من العائلات الفلسطينية. فكثير من العائلات أصبحت تعتمد على وجبتين بدل ثلاثة، حيث يتم تأخير وجبة الغداء بقصد الاستغناء عن وجبة العشاء. مروان عبد ربه ( 40 عاماً ) الذي يقطن في مخيم " المغازي " قال ل " ويكلي " أنه من الصعب على زوجته تدبير شؤونها في المطبخ في الليل عندما يتم قطع الكهرباء، فلذا قد اتفق معها على تأخير الغداء، سيما أن أولاده يدرسون في الفترة المسائية، وهم يعودون للبيت قبل المغرب.
في ظل الحصار الخانق، فأنه يتطلب من الفلسطينيين بذل الكثير من الجهد للعثور على بدائل تسمح لهم بموائمة حياتهم مع الواقع المستحيل، لكن بكل تأكيد لن يكون بإمكانهم أن يجدوا بديلاً لعلاج المرضى والطعام وحليب الأطفال.