أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
وصيّة حصان محمد العلي !!

بقلم : سعيد نفاع ... 03.03.2013

قصّة... مهداة إلى قائد حامية قرية شعب "أبو إسعاف" في جنان البرزخ.
حصان محمد العلي كان من الأحصنة القليلة التي بقيت في بلدنا وفاء من محمد العلي، بعد أن استغنى أهلُها عن خدمات بني أجناسه وبلا اعتراف أو ردّ جميل، وحتى النَّجْمَة الفرس الوحيدة التي بقيت في البلد يأنس لها وبها وتأنس به وله، صهيلا وحمحمة وبعضَ نظرات من وراء رباط اللجام على طرقات الحقول، لم يرها منذ زمن ولا عاد سمع حمحمتها ولا صهيلها.
لا هو عرف ولا أحدَ عرّفه اين راحوا بها وأيَّ مصير لاقت، وكل صهيلِه، الذي استثمر فيه كلَّ طاقات رئتيه علها تسمعُه فترد، راح سدى. الكثيرون من أهل البلد يشهدون أنهم لم يعُدوا يسمعون صهيل الأدهم من زمان، وقد ظنّوا ذلك تقدّما في العمر، إلا حمدان "مجنون بلدنا" فقد عرف السر وراء انقطاع الأدهم عن الصهيل.
لم "يمت" حصان محمد العلي الأدهم ميتة الفقراء طبقا لمقولة أهلنا "موتة الفقير ونذالة الغني يتيمتان"، فميتة حصان محمد العلي طبقت أخبارُها الدنيا، وكانت حديث الناس وما زالت، ولم تقو على طمسها لا الميتاتٌ ولا الأحداث الكثيرة التي جاءت بعدها.
والأهم أنّ حمدان أقسم الأيمان الغليظة أن حصان محمد العليّ، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، حكى له الكثير ممّا مرّ عليه في حياته مع أهل البلد، وأوصاه مستحلفا إياه ألا يفصح بما سمع منه إن رأى في ذلك مضرّة لهم، فهم رغم كلّ شيء لا يستأهلون إلا كلّ الخير على حد قوله "على ذمّة حمدان".
أهل البلد يعرفون ياما ترك محمد العلي الأدهم في عهدة حمدان يطعمه ويسقيه ويخرجه من الزريبة إلى العين يورده قبل أن تصل مياه "مكوروت" البلدة وبعدها، اعتقادا من محمد العلي أن هِمّة الأدهم لا تستوي إلا إذا ارتوى من عين البلد التي اعتادها مهرا، وياما أوكله عليه يرعاه أيام تفرج الدنيا شتاء، أو تقب الأرض ربيعا، أو تتمتليء بطون أعشابها صيفا وتفرغ خريفا وقبل وبعد أن وصلت "بالات" قشّ المستوطنات قرانا من حقول أخواتها المهجّرة.
حقيقة أن حمدان لم يُعِد الأدهم يوما إلا و"بطنه قالب على ظهره" شبعا وارتواء، وكل تحذيرات أهل البلد لمحمد العليّ من تركه الحصان لحمدان يرعاه ضاعت هباء، وأحبّ حمدان المهمّة وأيما حبّ وليس فقط بسبب ما كان يغدقه عليه محمد العلي من عطايا وهو المعوز، ولا بسبب الزهو الذي ينتابه وهو يعتلي صهوة الأدهم، وإنما لأن الأدهمَ محسوب على القلّة في البلد التي لم تؤذ حمدان يوما.
الأدهم شاهد في حياته الطويلة على عيون البلد وفي كرومها وحقولها وفي أعباب عروق روميّ زيتونها، مشاهد لم يشهدها الكثيرون. والكثيرون يعرفون عن مشاهداته، لا بل أكثر من ذلك ياما أجفل الأدهم كثيرين منهم في خلواتهم ومن كل الأصناف، وليس فقط الخلوات التي "عِلْمَك منها" وإنما خلوات مع رجال أغراب كانت تتم أيام الحكم العسكريّ ليس حياء وإنما اتقاء للأنظار والسريّة المطلوبة.
ما شاهده الأدهم يمكن أن ينكّس عُقلا وعمائم على رؤوس رجال ويخلعَ حجبا من على جباه نساء، لكن خوف البعض كان ليس ممّا شاهد الأدهم وإنما ممّا شاهد حمدان والأدهم، فالأدهم ستّار لكن حمدان يظلّ مكمنَ الخطر وإن كان مجنونا في عرف أهل البلد، وخصوصا بعد ما ادعاه عن وصيّة الأدهم التي أودعه سرّها قبل أن يلفظ أنفاسه.
عندما أعلن حمدان ومن ثمّ أقسم أن الأدهم تكلّم معه وحكى له من الحكايات الكثير قبل أن يلفظ أنفاسه، وقع الهمّ على رؤوس الكثيرين خوفا ممّا يخبيء حمدان أو من أن يكون حمدان تقمّص الأدهم حماية أخرى تُضاف إلى جنونه، وهو المجنون الذي استجدّ جنونه بعد هجيج ال-48. قبلَها كان حمدان فتى ككل الفتيان في البلد، ويوم الهجيج هجّ وأهله كما أهل البلد كلّ في اتجاه، وعاد بدون أهله مجنونا، لم يُفلح أهل البلد أن يستقوا منه لا حقّا ولا باطلا لا عن أهله ولا عن سبب جنونه، وأفشل حمدان كل محاولاتهم مرّة بابتسامة وأخرى بنظرة وثالثة بضحكة لم يسبر غورها سابر منهم، لا غورَ ضحكه ولا غور جنونه ولا غور مصيرِ أهله.
حمدان شهد كل أحداث البلد وشارك فيها اللهم إلا "طوشات" أهل البلد التي ظلّ فيها شاهدا محايدا متفرّجا، "طوشات" أيام "المخترة" وياما كان أكثرها، وأيام المجالس وياما صار أوفرها. شاهَد البيوت تحترق والحقول تشتعل والكروم تتقطّع، وشاهَد رؤوسا يشغر الدم منها بعد أن تُفج بالفؤوس والعصي والحجارة، والصدورَ الممزقة بالخناجر، ومؤخرا وبعد أن حطّت الحضارة حملَها ثقيلا في البلد، شاهد كذلك المسدّسات المهرّبة تنسل من الأعباب فلا يلبث أن يعلو عواؤها ليصرخ خلف عوائها نسوة وأطفال بعد أن تردي رجالا، وشاهد معطَ شوارب وشعور، وشاهد تشليح عقل وتمزيق ربطات عنق، وجدائل طارت عنها الحجب وحتى صدورا تدندلت لم تر شمسا في حياتها، وشاهد... وشاهد... .
خذ حمدان عل قدر عقله واسأله عن رأيه في ال"طوشات" فيقول لك دون تردد:
"ما تغيّر شيء عليها كانت زمان على فاضي وبعدها اليوم على فاضي وكلنا شاطرين في المرجلة على بعض... كانت زمان على رد شرف عيلة انمس من "تطليعة" أو ردّ على أذى دابّة على بقيّة مُلك من فضلات اليهود، اليوم صارت على المجالس والنراجيل، صارت كرامة العيلة في كرسيّ أجير عند اليهود أو نرجيلة معسّل".
لتجد نفسك مبهورةً تسألها بعد أن يلتئم فمُك الفاغر: "أهذا كلام مجانين؟!" وتردفُ لهل مقرّا: "الذي قال عنك يا حمدان مجنون هو مجنون وابن مجنون!".
ال"طوشة" الأخيرة غيّرت في حمدان كثيرا في نظر كلّ من يعرفه، لم يعد يضحك "على الطالعة والنازلة" كلما قابلته وسألته عن أي شيء وبالذات علاقاته الغراميّة الافتراضيّة، ولا عاد مرحا مع الأولاد الصغار وهو الذي لم يسبب يوما أذى لأحد منهم رغم كثرة مضايقاتهم له، لا بل ياما أصلح ذات البين بينهم على كثرتها وياما داوى خدوشَ لعبهم بالرماد وبولِهم.
كان بعد ال"طوشة" كمن يحمل همّا أكبر من أن يُطاق ونظرتُه العميقة ومباشرة في عينيك عندما تسألُه معلّقا باسما ساخرا: "شو قال لك حصان محمد العلي قبل ما يموت؟"، كانت تُطيّر البسمة عن شفاهك وتحرّك فيك شيئا لا تدرك كنهه، خصوصا عندما يجابهك صارما متّهما: "شو خص الأدهم في انتخابات المجلس شو هو صوّت واللا كان مرشّح للرئاسة؟!".
لم يبق أحد في البلد من طرفي ال"طوشة" إلا حطّ عليه الذهول ممّا جرى للأدهم في "طوشة" لا شبق ولا عبق ولا حبق ولا طبق له فيها، ففي حمأة المعركة ارتأى أحدُ أبطالها الميامين، وعلى ذمّة حمدان وقد رآه، وكان للأدهم فضل عليه إذ حمله يوم لدغته الأفعى في الوادي إلى البلد، ولولا وجود الأدهم وعمره قصير لكان بقي في الوادي جثّة، ارتأى هذا وكأن ما حُرق لدار العليّ من بيوت وأُتلف من حقول وفُجّم من رؤوس وكُسّر من عظام وأُسيل من دماء لم يفشّ غليلَه ولم يكفِه ثأرا، فصبّ على الأدهم الوقود ودبّ النار فيه.
قفز الأدهم قفزة لم يعهدْها فيه أحد في يفاعته قاطعا المقود ومصدرا صهيلا لم يُسمع من قبل يصمّ القلوب قبل الآذان... وألقى لحوافره العنان روحةً وجيئةً يطوي أرض الحاكورة الواسعة بشراسة... والنار تلتهمه من عرفه إلى ذيله تقطّع العقول قبل القلوب... يرتطم مرّة في السياج ومرّة في الأشجار. لم يُعط أحدا من الكثر، نساء ورجالا وصبية جاءوا بدلاء المياه من كل صوب، الفرصة لإطفاء ناره اللهم إلا شرف المحاولة حتّى سقط، وراح أهل الحارة يسكبون على جسد الأدهم المصارعِ النارَ المياهَ من دلاء منتقلة بين الأيادي في سلسلة من كلا الفريقين الخصمين بعد أن أسقطت من بين أصابعها العصيَّ والحجارةَ المدماة، ولكن كان "السيف قد سبق العذل".
كانت الجمهرة أكبرَ كثيرا من أي جمهرة شهدتها البلد في أكبر مناسباتها حتى من جمهرة مأتم شيخها الراحل، والصمت سيّد المكان إلا من نحيب حمدان مخلوط ٍ بكلمات لم تقو على استيعاب كنهِها الآذان، يصدران من وسط الدخان الكثيف الذي كان ما زال يتصاعد من جسد الأدهم، وهو يجثو قرب رأسه يمسّده ويربّت عليه، والأدهم يصدر أصواتا لا هي صهيلا ولا هي حمحمة صادرة من قصبة رئتيه تعلو وتهبط متقطّعة مقطّعة قلوبا.
جفل كل من كان في المكان حين وقف حمدان صارخا في وجه رجل شقّ الصمت مقترحا على محمد العلي رمي الأدهم بالرصاص رحمة، فتراجع عن اقتراحه أمام هول الصرخة، وظلّ حمدان يمسّد رأس الأدهم إلى أن سكن، فألقى حمدان رأسه على رأس الأدهم غير عابيء لا بالدخان المتصاعد ولا بحرارته الكاوية.
أبكى الأدهم وحمدان النساء ونحّبا الصبية وعقدا أوتارَ حلوق رجال، قبل وبعد أن أخذ القوم يتفرّقون إلا حمدان ظلّ على جثوته، بعد أن راحت هباء كلّ محاولات محمد العلي من قلب قلبه المتقطّع وعميق حلقه الأجهش لإقناع حمدان بترك الأدهم لحاله، والصباح رباح.
ويقول البعض أن حمدان بقي على هذه الحال حتّى الصباح، ورافق الأدهم حين أخذته عربة البلديّة صباحا إلى المزبلة، مزوّدا بفأس ومجرفة طلبهما من محمد العلي الذي لم يكسر بخاطره ملبً طلبَه دون اعتراض، وحتى سائق عربة البلديّة لم يقوَ على ردّ طلب حمدان الرفقَ بجسد الأدهم حين أنزله في زاوية جانبيّة بعيدة منها، تاركا إياه يحفر مدفنا للأدهم قريبا من طريق حقول أهل البلد.
الكثيرون رأوا في رواحهم وغدوهم وفي الأيام الطويلة التي تلت، حمدان يفترش كومة التراب فوق جسد الأدهم، ولم يفصح حمدان حتّى الآن بتفاصيل ما أدعاه عن كلام قاله له الأدهم قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ولا بما أسرّ له والذي، حسب ادعائه، إن أفصح به سينكّس عقلا كثيرة وحجبا وعمائم إن لم ينزعها كليّة عن رؤوس كثيرة.
وظلّ الكثيرون يتساءلون "ما الذي يعرفه حمدان وينسبه إلى الأدهم وما الذي يقصده من هذا؟!"، فلم يصدّق أحد أن الأدهم تكلّم مع حمدان مسرّا له بالكثير موصيا إياه، إلا الصبية الذين راحوا كلّ ينسج في خياله ما تيسر بعد أن خابت كلّ محاولاتهم مع حمدان ليحكي لهم الحكاية.
وما زالت ميتة الأدهم في بلدنا ليست ك"موتة الفقراء ولا رذيلة الأغنياء" حيّة تُرزق تُروى، والكلّ في ترقّب حمدان أن يُفصح، لكن حمدان ما زال يرى أن أهل البلد يستأهلون كلّ خير رغم كل شيء وكان وعَد الأدهم ألا يفصح بشيء إذا رأى فيه مضرّة لهم كما أوصاه الأدهم من قلب ألمه.
ويُقال أن لميتة الأدهم كانت المساهمة الكبرى إن لم تكن الأساسيّة في وضع أوزار ال"طوشة" التي لم تتلُها حتى الآن أخرى، بعد أن كانت عجزت عنها كل "جاهات الصلح"، خصوصا وأن نارَ الأدهم كانت ألقت العصي والحجارة المدماة من الأيدي لتتشابك في نقل دلاء الماء التي أطفأت ناره والتي اتت من كلّ البيوت.
ويُقال أن الأمور اختلطت على شيخ البلد وأُسقط في يده وهو السريع الخاطر، حين سؤل: أيستحقّ الأدهم طلب الرحمة؟!
وبعد أن التقط أنفاسه من هول السؤال ردّ: الله عليم في خلقه!