أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
إعدام امرأة!!

بقلم : د. هيفاء بيطار  ... 02.03.2013

كانت المحاكمة نهائية، والحكم قطعي غير قابل للتأجيل ولا الاستئناف ولا النقض، وقررت هيئة المحكمة الموقرة، الحكم علي بالإعدام، لأني طوحت على مدى سنوات بالتقاليد والعادات المُتعارف عليها عامةً، وشوهتُ مفاهيم الشرف والأخلاق برفضي بيت الطاعة الزوجي وإعلاني على الملأ أنني أعشق رجلاً أعيش حبه في الشمس...‏
وقالوا: إني ظاهرة خطرة على المجتمع، لأنَّ العشق الحر لو استشرى بين البشر، لانتهى المجتمع إلى كارثة لا أخلاقية، ولانهدمت بيوت كثيرة، ولهجرت نساء كثيرات أزواجهن، ولهجر رجال كثيرون زوجاتهم، وهكذا تنهدم بنية الأسرة التي هي حجر الأساس لبناء مجتمع سليم...‏
لا أذكر ماذا قالوا بعد... أغمضتُ عيني تخيلتُ بيتاً ريفياً بسيطاً وأشجاراً عالية وأطفالاً يلعبون ويتصايحون، وتبلورت هذه الصورة أكثر وأكثر، واشتد صياح الأطفال وعلت ضحكاتهم، وتبينت من خلالهم ابنتي إيمان، فخفق قلبي بشدة، كانت تضحك من كل قلبها تتكلم وتشير بيديها، كانت عيونها تلتمع فرحاً، وخدودها موردةً، وهي تقفز وتلعب مع رفاقها، صرختُ بكل قواي، إيمان، إيمان، لكنها لم تسمع، كنت أراها، ولكنها لا تراني، ولا تسمعني، وددت لو أركض أحتضنها بقوة وأقبل يديها وقدميها وشعرها.... ولكني اكتشفت أني غير قادرة على الحركة وأني مشلولة... وفجأة انطفأت الرؤية وحل الظلام، وحاولت جاهدةً استعادةً الصورة فعجزت وفتحت عيني بأسى ففوجئت بتزايد الجماهير، كيف تجمَّع كل هؤلاء، من أين أتوا؟.. رجالاً ونساءً.. حتى الأطفال، أحضروا أطفالهم ليشهدوا إعدام امرأة... ولكن لماذا يُحضرون الأطفال، وكيف تسمح هيئة المحكمة الموقرة بإحضار الأطفال؟....‏
ماكنتُ أشعر بشيء، ولكني كنتُ فعلاً مندهشة من هذا الحشد الكبير، ونقلت نظري في الوجوه، كنت أعرف أكثرها، وتبينت أصدقائي وأقربائي وجيراني وغيرهم كثيرون بالرغم عني ابتسمتُ لأني وجدتُ تشابهاً كبيراً بينهم... نفس النظرات، هل النظرة تعطي هذا التشابه الكبير بين البشر كانوا ينظرون إلي بثبات نظرة حيادية باردة ميتة... كأني لا شيء بالنسبة لهم كأني لم أعش وسطهم أكثر من ثلاثين عاماً... كيف يتنكّرون لي بهذه البساطة، ووجدت الأنظار كلها تتحول لأحد رجال المحكمة الذي وقف وأعلن بإصرار أنه لن يصلي على جثتي بعد وفاتي لأني كافرة، ولم أطبق تعاليم الدين... وجرى همس خفيف بين الناس، ثم سكت الهمس وحلَّ صمت كله ترقب...‏
سألني أحد رجال المحكمة: ماهي رغبتك الأخيرة..‏
قلت له: أريد أن أموت غرقاً...‏
دهش وقال: ولكني أسألك عن رغبتك الأخيرة، لا عن الطريقة التي ستموتين فيها، فهي من اختصاصنا...‏
ـ ليس عندي أية رغبة، سوى أن أموت غرقاً...‏
يبدو أن هذه الرغبة لم تكن متوقعة أبداً، فجرى تشاور طويل بين رجال المحكمة الثلاث، وافقوا على رغبتي... أخيراً...‏
ـ ولكن البحر بعيد من هنا، حسناً سنأخذك بالسيارة... كانت ثلاث سيارات سوداء فخمة تنتظر عند باب المحكمة وأشاروا إلي أن أركب إحدى السيارات، صعدت إلى المقعد الخلفي، وانطلق السائق باتجاه البحر... لم أكن أشعر بأي شيء، كانت أحاسيسي مصادرة، كأنها تجلدت أو هربت كنت أنظر إلى البيوت والناس والأشجار، وأكوام القمامة.‏
كان البحر ينتظرني بشوق، والموج يهمس لي بموسيقى رائعة، لم أسمع أجمل منها في حياتي... الزرقة الأبدية ستحتويني وسأرتاح، ولدهشتي وجدت حشد الناس ينتظرني على الشاطئ، كيف وصلوا بهذه السرعة؟!... هل ركبوا سيارات أم أنها جمهرة أخرى، ولكنهم متشابهون لدرجة....‏
وقف الرجال الثلاثة الممثلون لهيئة المحكمة، وأومؤا لرجلين ضخمين كي يدفعاني إلى الماء.. لكني لم أنتظر تلك اللحظة كان البحر يناديني بشوق لا يوصف، دبت الحياة بقدمي المشلولتين ووجدتني أركض وأركض وأرتمي في الزرقة اللامتناهية...‏
كانت برودة الماء منعشة، وأحسست أن أحزاني تذوب كلها... وتحررتُ من ثقل جسدي وملابسي وتنفستُ بعمق ووجدت دموعي تنسكب بغزارة وتختلط بماء البحر فيشكل اتحادهما دواءً سحرياً يداوي جروحي الكثيرة...‏
لم أكن أتصور أن قاع البحر جميل بهذا الشكل تعجبت كيف كنت أخشاه سابقاً، كان الموج ينقلني بخفة ويبحرني إلى عوالم رائعة، ألوانها ساطعة، لم أشاهد مثلها من قبل كنت خفيفة وحرة وسعيدة، وكانت تصدر آهات فرح من حنجرتي، ووجدت نفسي أغني وأنا أدور مع الموج.... لم أكن أقدر الزمن، كم استمر دوراني مع الموج، ثواني ساعات، أياماً، سنين... لا أدري، تعطل الزمن كنت أعيش بسعادة لا متناهية...‏
يبدو أنَّه لا يوجد توقيت زمني في عالم البحار، كنت مستسلمة للموج الذي ينقلني من مدينة إلى مدينة دون حدود، ودون جواز سفر، إلى أن تباطأ الدوران وتوقف، ووجدت نفسي في جزيرة خضراء رائعة، وهتفت بكل حواسي أنها الجنة، كان خيالي يعجز عن تخيل جمال بهذه الروعة أشجارها مختلفة، أزهارها بألوان لم أشاهدهما من قبل، شمسها ساطعة دوماً "تشيع الدفء والحياة وبين الأشجار الباسقة لمحت بيتاً أو بناءً جميلاً أشبه بالبيت، ولكن جدرانه شفافة واقتربت، كان الباب مفتوحاً... تعجبت هل هذه الجزيرة مسكونة دخلت من الباب وجدته، صرخت صرخةً ردد صداها الموج كله... كان حبيبي يجلس ينتظرني وعيناه تشعان حباً ووجداً... ارتميت في أحضانه وبكيتُ دهراً.... وقلتُ له: كيف أتيتُ إلى هنا، هل حكموا عليك بالإعدام أيضاً...‏
قال: أبداً، ولكن حبنا لا يعيش إلا في الجنة، وهذه هي الجنة التي انتظرتك فيها طويلاً، هنا سنعيش بسلام، لن نضطر للكذب، لن نضطر لتقديم أوراق رسمية مختومة وعليها طوابع ليحللوا علاقتنا أو يحرموها... في هذه الجزيرة، لا شيء ينمو دون حب الشمس هنا لا تغيب أبداً... ولكن أشعتها دافئة وليست محرقة الأشجار تظل خضراء ولا تتساقط أوراقها، الأزهار تظل يانعة، لا تذبل ولا تتبدل...‏
وبدأت أدور في هذه الجزيرة العجيبة، وتمددت على سجادة خضراء من العشب الطري وسط أزهار تلمع بألوان عجيبة، ومددت يدي وقطفت زهرة، ولدهشتي سال دم أحمر حار من ساقها ذهلت وأسرعت لصديقي أخبره ما حدث، فقال لي وهو متألم، ولماذا تقطعين الأزهار....‏
تأمليها فقط، هذه الأزهار نمت من دماء الشهداء، من دماء المظلومين والضحايا الأبرياء.... كانت الزهرة في يدي لا تزال ترشح دماءً خفيفاً، تألمت كثيراً، لماذا قطفتها، وتحول لونها إلى أصفر شاحب فرميتها جانباً..‏
كيف يمر الزمن في هذه الجزيرة؟ لا أدري فالشمس لم تكن تغيب أبداً... وكنتُ أستطيع أن أنام بهدوء في دفئها الرائع، وكنت أقوم بنزهات طويلة وأنا أمسك يد حبيبي بأمان، دون أن أرتجف خوفاً، ونتحدث أحاديث لا نهائية، لا يبترها تجسس ولا فضول... حتى حبنا تغير شكله، صار امتداداً لروعة الطبيعة، لا يعرف الشك ولا الفتور، ولا الغضب، صار له مسحة من الخلود والمطلق، صار نوعاً من التعبد، كأنه انصهر مع عبادة الله...‏
كيف لا يكتفي الإنسان بالجنة، فتشده قوى خفية إلى أن يخرج منها ولو لدقائق، قوى نحو مجهول، كله عتمة وخطر... وبدأت تنتابني هواجس وأحلام؟.. إني يمكن أن أتسلل خارج الجزيرة لدقائق لأرى إيمان... لتبحث روحي عنها، فقط لأراها... كنت أعرف أن حبيبي سيمنعني من الخروج لأننا أموات بالنسبة لأهل الأرض... ولكن الهواجس زادت وأخذ شوقي لإيمان يزداد ويتعمق حتى احتل كياني كله ولم أعد قادرة على التفكير بشيء... وفي لحظة لمحت دوار البحر يمر بالقرب من الجزيرة، فرميت نفسي فيه وحبيبي يصرخ أيتها المجنونة لماذا فعلت ذلك؟! وأصعدني الدوار إلى السطح، فرأيت اليابسة من بعد، آه كم هي بعيدة، كيف سأستطيع السباحة وحدي، ولكنني صممتُ كانت صورة إيمان ترتسم بوضوح شديد أمام عيني، لمعان عينيها، حبات العرق الصغيرة تنضح من جبهتها وهي تلعب أنفاسها وهي نائمة، آه، إيمان، كنت أسبح وأسبح بقوة لا تعرف اليأس، وشعرت أن المسافة بدأت تقصر وأني بعد وقت قليل سأضم حبيبة قلبي إلى صدري، ولمحت صخور الشاطئ، وداهمتني رغبة بالإقياء من رائحة كريهة انبعثت من هذه الصخور، كانت الشمس تقارب على المغيب وأخذ الغسق يلون الطبيعة بألوانه السحرية البديعة كنت على وشك الانهيار من التعب، ولكني قاومت وتجلدت وأخذت أسبح وأسبح، واشتدت العتمة حولي، ولمحت خيالات أشخاص أم أنها تهيؤات بصرية من تعبي الشديد... وتابعت السباحة باتجاه الصخور فسمعت أصواتاً بشرية تختلط مع أصوات البحر في أذني ودققت النظر في العتمة فلمحت عدة أشخاص كانوا يقفون بهدوء وينظرون باتجاهي، آه ليت أحدهم يساعدني ويجرني إلى الشاطئ، كنت أجرُّ نفسي لاهثة وأخذت نظراتي تزوغ من التعب والإرهاق، واقترب الأشخاص من حافة الصخور لم أتبين وجوههم لأن الشمس كانت قد اختفت في البحر... وبدأ الظلام وصرخ أحدهم بصوت جهوري: كنا واثقين انك ستحاولين العودة، وأن كل افتعالك للموت غرقاً كان حيلة منك، وأعطى إشارة بيده فرفع الرجال بنادقهم وانهال الرصاص باتجاهي وغطى على موسيقى الموج، كنت من التعب لدرجة لم أشعر بدخول الرصاص إلى جسدي وامتلأ جسدي بثقوب كبيرة سال منها دم أحمر حار امتزج بماء البحر، وسقط إلى القاع، فنمت للحال زهوراً رائعة الألوان لا تعرف الذبول...‏